مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِبۡرَٰهِيمَ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُۖ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (16)

ثم قال تعالى : { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }

لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما : النصب وهو المشهور ، و الثاني : الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم ، و الأول : فيه وجهان أحدهما : أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم ، والثاني : أنه منصوب بمذكور وهو قوله : { ولقد أرسلنا } فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم ، وعلى هذا ففي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { إذ قال لقومه } ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله : { لقومه اعبدوا الله } دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله ، وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلا قبله ؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلا ، وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج ، لكن لما كان الوقوف ممتدا إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني : هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال ، ولما كان هو مشتغلا بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله : { اعبدوا الله واتقوه } إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله : { اعبدوا الله } إشارة إلى الإثبات ، وقوله : { واتقوه } إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في ملكه يكون قد أتى بأعظم الجرائم ، ويمكن أن يقال : { اعبدوا الله } إشارة إلى الإتيان بالواجبات ، وقوله : { واتقوه } إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله ، وفي الثاني الامتناع من الشرك ، ثم قوله : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } يعني عبادة الله وتقواه خير ، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيل وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلا واعتبارا ، أما عقلا فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكنا قطعا للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله ، وأما التشريك فبطلانه عقلا وكون خلافه خيرا وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجبا فكيف يكون شريكا وإن كان واجبا لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل ، وأما اعتبارا فلأن الشرف لن يكون ملكا أو قريب ملك ، لكن الإنسان لا يكون ملكا للسماوات والأرضين فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى : { واسجد واقترب } . وقال : « لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم » وقال : «لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي » فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلا ، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة ، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله ، فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات .