مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَمَّآ أَن جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗاۖ وَقَالُواْ لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ} (33)

ثم قال تعالى : { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ، إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون }

ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشرا فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعا كناية عن العجز في تدبيرهم ، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز ، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك ، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا والقلب هو المعتبر من الإنسان ، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه ، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم : { إنا منجوك وأهلك } وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى قال من قبل : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم } وقال ههنا : { ولما أن جاءت رسلنا } فما الحكمة فيه ؟ فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجيء هناك قول الملائكة { إنا مهلكوا } وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا ، ثم قالوا : إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجيء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجئ به ، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم ، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير ، إذا علم هذا فقوله ههنا : { ولما أن جاءت رسلنا } يفيد الاتصال يعني خاف حين المجئ ، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود ، وقال : { ولما جاءت رسلنا لوطا } من غير أن ، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك : { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } فقوله هنالك : { ولقد جاءت } لا يدل على أن قولهم : { أنا أرسلنا } كان في وقت المجيء . وقوله : { ولما جاءت رسلنا لوطا سىء بهم } دل على أن حزنه كان وقت المجيء . إذا علم هذا فنقول : هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم : { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام ، ثم قالوا : { لا تخف } ولا تحزن { إنا أرسلنا إلى قوم لوط } فحصل تأخير الإنذار ، وبقوله في حكاية لوط { ولما جاءت رسلنا } حصل بيان تعجيل الحزن ، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم { ولما جاءت } قال في حكاية لوط { ولما أن جاءت } لما ذكرنا من الفائدة .

المسألة الثانية : قال هنا { إنا منجوك وأهلك } وقال لإبراهيم { لننجينه } بصيغة الفعل فهل فيه فائدة ؟ قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها ، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا ، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم : { إن فيها لوطا } وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم ، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا : { إنا منجوك } أي ذلك واقع منا كقوله تعالى : { إنك ميت } لضرورة وقوعه .

المسألة الثالثة : قولهم : { لا تخف ولا تحزن } لا يناسبه { إنا منجوك } لأن خوفه ما كان على نفسه ، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن ، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك ، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا : { إنا منجوك وأهلك } .

المسألة الرابعة : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر ، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم ، فبالدلالة صارت واحدة منهم ،