قوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور * ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم * وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل } .
اعلم أنه تعالى لما قال : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السموات والأرض ، فلهذا السبب قال : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه ، فكيف سمي بالسيئة ؟ أجاب صاحب «الكشاف » : عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا ، وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر ، والحق ما ذكره صاحب «الكشاف » .
المسألة الثانية : هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان ، لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان ، فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه ، وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل ، ثم تأكد هذا النص بنصوص أخر ، كقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله تعالى : { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } وقوله عز وجل : { كتب عليكم القصاص في القتلى } والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى : { والجروح قصاص } وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله . ثم هاهنا دقيقة : وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فهاهنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه ، فأيهما أولى ؟ فهاهنا محل اجتهاد المجتهدين ، ويختلف ذلك باختلاف الصور ، وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيها على الباقي .
المثال الأول : احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد ، بأن قال المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين ، فوجب أن لا يجري القصاص بينهما ، أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة ، وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين ، والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية ، فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال ، ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص ، ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص ، فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصه دليل العقل ودليل نقلي منفصل ، وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي ، وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل ، لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي ، ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضا الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة ، فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة هاهنا فوجب المنع من القصاص .
المثال الثاني : احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ، فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل ، بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى .
المثال الثالث : شريك الأب شرع في حقه القصاص ، والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى : { والجروح قصاص } وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق .
المثال الرابع : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله .
المثال الخامس : شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه ، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .
المثال السادس : قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلما فوجب أن يجب عليه مثله ، أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلما فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد ، وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .
المثال السابع : قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود ، والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .
المثال الثامن : الحر لا يقتل بالعبد قصاصا ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر هاهنا وجها آخر من البيان ، فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا يساوي عشرة دنانير مثلا فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق .
المثال التاسع : منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاصب فوت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاصب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه .
المثال العاشر : الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لأنه لو قتل بالعبد هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصا بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساويا لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها ، فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساويا لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص ، فكان عبد نفسه مثلا لمثل نفسه ، ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلا لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص ، ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره ، فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية ، ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم ، ثم هاهنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة ، فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة يد واحدة حراما لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حراما ، لأن تفويت النفس يشتمل على تفويت اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة ، فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حراما لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملا على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة ، وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شرعا ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قد بينا أن قوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل ، والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس ، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب ، قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله ، فليقل له أخزاه الله ، أما إذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به .
ثم قال تعالى : { فمن عفا وأصلح } بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى : { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } ، { فأجره على الله } وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم .
ثم قال تعالى : { إنه لا يحب الظالمين } وفيه قولان ( الأول ) أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية ، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم ، قال فيقوم خلق فيقال لهم ما أجركم على الله ؟ فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى » ( الثاني ) أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيها على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب إلى عفوه ، فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه .