مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ صَبَّحَهُم بُكۡرَةً عَذَابٞ مُّسۡتَقِرّٞ} (38)

ثم قال تعالى : { ولقد صحبهم بكرة عذاب مستقر } أي العذاب الذي عم القوم بعد الخاص الذي طمس أعين البعض ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : { صبحهم } فيه دلالة على الصبح ، فما معنى : { بكرة } ؟ نقول : فائدته تبيين انطراقه فيه ، فقوله : { بكرة } يحتمل وجهين ( أحدهما ) : أنها منصوبة على أنها ظرف ، ومثله نقوله في قوله تعالى : { أسري بعبده ليلا } وفيه بحث ، وهو أن الزمخشري قال : ما الفائدة في قوله : { ليلا } وقال : جوابا في التنكير دلالة على أنه كان في بعض الليل ، وتمسك بقراءة من قرأ : { من الليل } وهو غير ظاهر ، والأظهر فيه أن يقال : بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود المتكلم وأنه لا يريد بيانه ، كما يقول : خرجنا في بعض الأوقات ، مع أن الخروج لا بد من أن يكون في بعض الأوقات ، فإنه لا يريد بيان الوقت المعين ، ولو قال : خرجنا ، فربما يقول السامع : متى خرجتم ، فإذا قال : في بعض الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته ، فكذلك قوله تعالى : { صبحهم بكرة } أي بكرة من البكر و { أسرى بعبده ليلا } أي ليلا من الليالي فلا أبينه ، فإن المقصود نفس الإسراء ، ولو قال : أسرى بعبده من المسجد الحرام ، لكان للسامع أن يقول : أيما ليلة ؟ فإذا قال : ليلة من الليالي قطع سؤاله وصار كأنه قال : لا أبينه ، وإن كان القائل ممن يجوز عليه الجهل ، فإنه يقول : لا أعلم الوقت ، فهذا أقرب فإذا علمت هذا في أسرى ليلا ، فاعلم مثله في : { صبحهم بكرة } ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه : { صبحهم } بمعنى قال لهم : عموا صباحا استهزاء بهم ، كما قال : { فبشرهم بعذاب أليم } فكأنه قال : جاءهم العذاب بكرة كالمصبح ، والأول أصح ، ويحتمل في قوله تعالى : { صبحهم بكرة } على قولنا : إنها منصوبة على الظرف مالا يحتمله قوله تعالى : { أسرى بعبده ليلا } وهو أن : { صبحهم } معناه أتاهم وقت الصبح ، لكن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار ، فإذا قال : { بكرة } أفاد أنه كان أول جزء منه ، وما أخر إلى الإسفار ، وهذا أوجه وأليق ، لأن الله تعالى أوعدهم به وقت الصبح ، بقوله : { إن موعدهم الصبح } وكان من الواجب بحكم الإخبار تحققه بمجيء العذاب في أول الصبح ، ومجرد قراءة : { صبحهم } ما كان يفيد ذلك ، وهذا أقوى لأنك تقول : صبيحة أمس بكرة واليوم بكرة ، فيأتي فيه ما ذكرنا من أن المراد بكرة من البكر الوجه الثاني : أنها منصوبة على المصدر من باب ضربته سوطا ضربا فإن المنصوب في ضربته ضربا على المصدر ، وقد يكون غير المصدر كما في ضربته سوطا ضربا ، لا يقال : ضربا سوطا بين أحد أنواع الضرب ، لأن الضرب قد يكون بسوط وقد يكون بغيره ، وأما : { بكرة } فلا يبين ذلك ، لأنا نقول : قد بينا أن بكرة بين ذلك ، لأن الصبح قد يكون بالإتيان وقت الإسفار ، وقد يكون بالإتيان بالأبكار ، فإن قيل : مثله يمكن أن يقال : في { أسرى بعبده ليلا } قلنا : نعم ، فإن قيل : ليس هناك بيان نوع من أنواع الإسراء ، نقول : هو كقول القائل : ضربته شيئا ، فإن شيئا لا بد منه في كل ضرب ، ويصح ذلك على أنه نصب على المصدر ، وفائدته ما ذكرنا من بيان عدم تعلق الغرض بأنواعه ، وكأن القائل يقول : إني لا أبين ما ضربته به ، ولا أحتاج إلى بيانه لعدم تعلق المقصود به ليقطع سؤال السائل : بماذا ضربه بسوط أو بعصا ، فكذلك القول في : { أسرى بعبده ليلا } يقطع سؤال السائل عن الإسراء ، لأن الإسراء هو السير أول الليل ، والسرى هو السير آخر الليل أو غير ذلك .

المسألة الثانية : { مستقر } يحتمل وجوها ( أحدها ) : عذاب لا مدفع له ، أي يستقر عليهم ويثبت ، ولا يقدر أحد على إزالته ورفعه أو إحالته ودفعه ( ثانيها ) : دائم ، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم ، فكأن ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم ، فإن الموت يخلص من الألم الذي يجده المضروب من الضرب والمحبوس من الحبس ، وموتهم ما خلصهم ( ثالثها ) : عذاب مستقر عليهم لا يتعدى غيرهم ، أي هو أمر قد قدره الله عليهم وقرره فاستقر ، وليس كما يقال : إنه أمر أصابهم اتفاقا كالبرد الذي يضر زرع قوم دون قوم ، ويظن به أنه أمر اتفاقي ، وليس لو خرجوا من أماكنهم لنجوا كما نجا آل لوط ، بل كان ذلك يتبعهم ، لأنه كان أمرا قد استقر .

المسألة الثالثة : الضمير في { صبحهم } عائد إلى الذين عاد إليهم الضمير في أعينهم فيعود لفظا إليهم للقرب ، ومعنى إلى الذين تماروا بالنذر ، أو الذين عاد إليهم الضمير في قوله : { ولقد أنذرهم بطشتنا } .