روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة } أي من أبعد مواضعها { رَجُلٌ } أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم ، وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطئوا معه واسمه على ما روي عن ابن عباس . وأبي مجلز . وكعب الأحبار . ومجاهد . ومقاتل حبيب وهو ابن إسرائيل على ما قيل ، وقيل : ابن مري وكان على المشهور نجاراً ، وقيل : كان حراثاً ، وقيل : قصاراً ، وقيل : إسكافاً ، وقيل : نحاتاً للأصنام ويمكن أن يكون جامعاً لهذه الصفات ، وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمناً يعبد ربه عز وجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء { يسعى } أي يعدو ويسرع في مشيه حرصاً على نصح قومه ، وقيل : إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } [ الإسراء : 19 ] وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار ، نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمناً وهو ينافي أنه كان نحاتاً للأصنام . وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحاً ، وحكى القول بإيمانه عن ابن أبي ليلى ، ونقل في «البحر » عنه أنه قال : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين . علي بن أبي طالب . وصاحب يس . ومؤمن آل فرعون .

وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن به تبع الأكبر . وورقة بن نوفل . وغيرهما ؛ ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة والسلام قبل ظهوره .

وقيل كان مجذوماً وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال : هل من آية ؟ قالوا : نعم ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال : إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا : ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عز وجل ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى ، وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد ، نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن تبع منافاة ، وكون إيمانه به عليه الصلاة والسلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال : المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين ، ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمناً ما حكى أن المرسلين اللذين أرسلا أولاً لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنماً فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية ؟ فقالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرىء فآمن ، وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر ، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمناً بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل ، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال .

وجاء { مِنْ أَقْصَى المدينة } هنا مقدماً على { رَجُلٌ } عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة .

وقال الخفاجي : قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بياناً لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد ، وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين ، وقيل إنه لو أخرتوهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود ، وجملة { يسعى } صفة { رَجُلٌ } وجوز كونها حالاً منه من جوز مجيء الحال من النكرة ، وقوله تعالى : { قَالَ } استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال عند مجيئه ؟ فقيل : قال { قَالَ يا قوم اتبعوا المرسلين } وجوز كونه بياناً للسعي بمعنى قصد وجه الله عز وجل ولا يخفى ما فيه ، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم بيا قوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به ، وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [ لهم ] : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } فأمرهم باتباعهم ونصحهم على ذلك ، وشهد لهم بالرسالة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

قوله تعالى : { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } وهو جبيب النجار ، وقال السدي : كان قصاراً . وقال وهب : كان رجلاً يعمل الحرير ، وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين ، فيطعم نصفاً لعياله ويتصدق بنصف ، فلما بلغه أن قومه قد قصدوا قتل الرسل جاءهم . { قال يا قوم اتبعوا المرسلين* }

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَجاءَ مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى" يقول: وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم، وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذُكِر، فبلغ ذلك هذا الرجل، وكان منزله أقصَى المدينة، وكان مؤمنا... فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال: يا قَوْمِ اتّبِعُوا المُرْسَلِينَ...

وقوله: "قالَ يا قَوْمِ اتّبِعُوا المُرْسَلِينَ "يقول تعالى ذكره: قال الرجل الذي جاء من أقصى المدينة لقومه: يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم، واقبلوا منهم ما أتوكم به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال عامة أهل التأويل: إن هذا الرجل يسمى حبيبا النجار، وهو من إسرائيل، كان في غار يتعبّد. فلما سمع بالرسل نزل، وجاء، فقال ذلك ما قال. لكن لا ندري من كان؟ وليس لنا إلى معرفة اسمه حاجة.

ثم يحتمل قوله: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} رغبته في الرسل وفي دينهم، فدعاهم إلى اتباع الرسل، أو أن يكون كان مؤمنا مسلما مختفيا. فلما بلغه خبر إهلاك الرسل جاء يسعى إشفاقا عليهم لئلا يهلَكوا، أعني الرسل، فقال: {يا قوم اتبعوا المرسلين}.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

في القصة أنه جاءُ من قرية فسمَّاها مدينة، وقال من أقصى المدينة، ولم يكن أقصاها وأدناها لِيَتَفَاوَتَا بكثيرٍ، ولكنه -سبحانه- أجرى سُنَّتَه في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِهِ إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فَضْلِه إذا بَذَلَه وأعطاه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في فائدته وتعلقه بما قبله وجهان؛

أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا فقوله: {من أقصى المدينة} فيه بلاغة باهرة، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة.

وثانيهما: أن ضرب المثل لما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعى المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التفسير مسائل.

المسألة الأولى: قوله: {وجاء من أقصى المدينة رجل} في تنكير الرجل مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان؛

الأولى: أن يكون تعظيما لشأنه أي رجل كامل في الرجولية.

الثانية: أن يكون مفيدا لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا...

المسألة الثانية: قوله: {يسعى} تبصرة للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، وقد ذكرنا فائدة قوله: {من أقصى المدينة} وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة...

وقوله تعالى: {قال يا قوم اتبعوا المرسلين} فيه معان لطيفة:

الأول: في قوله: {يا قوم} فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم وشفقة، فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله: {يا قوم} يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيرا، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون {يا قوم اتبعون} فإن قيل قال هذا الرجل {اتبعوا المرسلين} وقال ذلك {اتبعون} فما الفرق؟ نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته، فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مرارا، فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم.

الثاني: جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله: {اتبعوا} نصيحة وقوله: {المرسلين} إظهار أنه آمن.

الثالث: قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعيا في النصح، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل.

{رجل يسعى} يدل على كونه مريدا للنصح، وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول: «اللهم اهد قومي».

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان السياق لأن الأمر بيد الله، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى، فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إن شاء، وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب، قدم مكان المجيء على فاعله؛ بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال: {وجاء من أقصا} أي أبعد -بخلاف ما مر في سورة القصص؛ ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية كما تقدم.

وقال: {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم لبعد الأطراف وجمع الأخلاط.

ولما بين الفاعل بقوله: {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المنكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله: {يسعى} أي يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.

ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه، بينه بقوله: {قال} واستعطفهم بقوله: {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله: {اتبعوا المرسلين} أي في عبادة الله وحده وكل ما يأمرونكم به.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل. وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى؛ وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.

فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة:

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى؛ قال: يا قوم اتبعوا المرسلين...

إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة. فيها الصدق. والبساطة. والحرارة. واستقامة الإدراك. وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتاً؛ ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور؛ ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره. سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون. وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان. ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته. ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها..

(قال: يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحالِ الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة وهو من نفر قليل من أهل القرية.

فلك أن تجعل جملة {وجاء من أقصا المدينة} عطفاً على جملة {جاءها المرسلون} [يس: 13] ولك أن تجعلها عطفاً على جملة {فقالوا إنا إليكم مرسلون} [يس: 14].

والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله: {أصحاب القرية} [يس: 13] عُبر عنها هنا بالمدينة تفنناً، فيكون {أقصا} صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة. والتقدير: من بَعيد المدينة، أي طرف المدينة، وفائدة ذكر أنه جاء من أقصى المدينة الإِشارة إلى أن الإِيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة؛ لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود وهم أبعد عن الإِنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليه الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم، بخلاف سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراثٍ بالآخرين؛ لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.

وبهذا يظهر وجه تقديم {من أقصا المدينة} على {رجل} للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة. وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإِيمان يسبق إليه الضعفاء؛ لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة...

وأما قوله تعالى في سورة القصص (20) {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} فجاء النظم على الترتيب الأصلي؛ إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحاً ولم يكن داعياً للإِيمان.

ووصفُ الرجل بالسعي، ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يُقتدَى به في الإِسراع إلى تغيير المنكر.

وجملة {قال يا قوم} بدل اشتمال من جملة « جاء رجل»؛ لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.

وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قُصد منه أن في كلامه الإِيماء إلى أن ما سيخاطبهم به هو محْض نصيحة؛ لأنه يحِب لقومه ما يحِب لنفسه.

والاتباع: الامتثال، استعير له الاتّباع تشبيهاً للآخِذِ برأي غيره بالمتبعِ له في سيره.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

قوله سبحانه: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} يدل على أن الرسولين الأولين اللذين كذَّبهما القوم كان لهما أنصار مؤمنون بهما، مُصدِّقون لدعوتهما، فلما جاء الثالث وأيضاً كذَّبه القوم أخذتْ هؤلاء المؤمنين حَمِيَّة الحق، وكان منهم هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لِنُصْرة الحق وإعلاء كلمته.

ونلحظ في هذه الآية أولاً قوله سبحانه: {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} أنه لم يكن قريباً من مكان هذه المناظرة الكلامية، وأنه تحمَّل المشاق في سبيل نُصْرته للحق، وهذا دليل على قوة الطاقة الإيمانية عند هذا الرجل، ودليل أيضاً على أن الرسولين السابقين قد بلغت دعوتهما أقصى المدينة.

ثم وصفه بأنه (رَجُلٌ) ولم يَقُلْ فلان، فذكر الصفة البارزة في تكوينه أنه رجل.

وهِمَّة الرجل هي التي تحدد مقدار رجولته، فرجل يريد الحياة لنفسه فقط والكل يخدمه، يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد، هذا رجل وطنه نفسه وذاته، ورجل وطنه أهله وعياله يُعدِّي إليهم منفعته، ورجل وطنه أمته، ورجل وطنه العالم كله مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو فلسفة الرجل.

إذن: هِمَم الرجال هي التي تحدد أوطانهم ومنازلهم، وأعلى هذه المنازل رجل وطنه العالم كله؛ لأن الخَلْق كلهم عيال الله، فمَنْ يحب الخير لهم وينثر عليهم ما ينفعهم فقد استأمنه الله على رزق العباد.

ومثّلنا لبيان ذلك قلنا: هبْ أن لك أولاداً، واحداً منهم يأخذ مصروفه فينفقه على ملذاته ورغباته وفيما لا يفيد، والآخر يشتري بمصروفه حلوى ويُوزِّعها على إخوته الصغار، فأيهما تُؤثِره بعد ذلك، وأيهما تزيده؟ كذلك اليد المناولة عن الله لخَلْق الله، وكأن الله يقول له: أنت مأمون على نعمتي، مأمون على خَلْقى، ومن ذلك قول الشاعر:

وقوله {يَسْعَىٰ} يعني: أن مجيئه لم يكُنْ عادياً، إنما مسرعاً يجري {قَالَ يٰقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} وقوله {يٰقَوْمِ} نداء لتحنين المنادَى، كأنه يقول: يا أهلي، يا عشيرتي، يا أبنائي، فذكر ما بينه وبينهم من صلات المودة والرحمة.

وقوله {اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} يدل على تأييده لهم، وهو هنا يذكر الحيثية الأولى لهذا الاتباع هي أنهم مرسلون.