البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

{ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } اسمه حبيب ، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل .

قيل : وهو ابن إسرائيل ، وكان قصاراً ، وقيل : إسكافاً ، وقيل : كان ينحت الأصنام ، ويمكن أن يكون جامعاً لهذه الصنائع .

و { من أقصى المدينة } : أي من أبعد مواضعها .

فقيل : كان في خارج المدينة يعاني زرعاً له .

وقيل : كان في غار يعبد ربه .

وقيل : كان مجذوماً ، فميزله أقصى باب من أبوابها ، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره .

فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال : هل من آية ؟ قالوا : نعم ، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك ، فقال : إن هذا لعجيب ! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع ، يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا : نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر ، فآمن .

ودعوا ربهم ، فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس .

فأقبل على التكسب ، فإذا مشى ، تصدق بكسبه ، نصف لعياله ، ونصف يطعمه .

فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال : { يا قوم اتبعوا المرسلين } .

وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر ، وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره .

وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة ، لم يكفروا قط طرفة عين : على بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون .

وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوماً ، عبد الأصنام سبعين سنة ، فالله أعلم .

وهنا تقدم : { من أقصى المدينة } ، وفي القصص تأخر ، وهو من التفنن في البلاغة .

{ رجل يسعى } : يمشي على قدميه .

{ قال يا قوم اتبعوا المرسلين } .

الظاهر أنه لا يقول ذلك بعد تقدم إيمانه ، كما سبق في قصة .

وقيل : جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه .

روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم : أتطلبون أجراً على دعوتكم هذه ؟ قالوا : لا ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم ،