مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

قوله تعالى : { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين }

وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي ، وعلى هذا فقوله : { من أقصى المدينة } فيه بلاغة باهرة ، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة وثانيهما : أن ضرب المثل لما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعى المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد ، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي التفسير مسائل .

المسألة الأولى : قوله : { وجاء من أقصى المدينة رجل } في تنكير الرجل مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان الأولى : أن يكون تعظيما لشأنه أي رجل كامل في الرجولية : الثانية : أن يكون مفيدا لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته .

المسألة الثانية : قوله : { يسعى } تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم ، وقد ذكرنا فائدة قوله : { من أقصى المدينة } وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة والمدينة هي أنطاكية ، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى : { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } فيه معان لطيفة الأول : في قوله : { يا قوم } فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله : { يا قوم } يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيرا ، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون { يا قوم اتبعون } فإن قيل قال هذا الرجل { اتبعوا المرسلين } وقال ذلك { اتبعون } فما الفرق ؟ نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته ، فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مرارا فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم الثاني : جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله : { اتبعوا } نصيحة وقوله : { المرسلين } إظهار أنه آمن الثالث : قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعيا في النصح ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله : { رجل يسعى } يدل على كونه مريدا للنصح وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول : «اللهم اهد قومي » .