السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (20)

ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى ، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد ، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعله بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى .فقال تعالى : { وجاء من أقصى } أي : أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال { المدينة } لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى : { رجل } بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى : { يسعى } أي : يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه .

تنبيه : في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان ، الأولى : أن يكون تعظيماً لشأنه أي : رجل كامل في الرجولية ، الثانية : أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال : إنهم تواطؤوا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام ، وقال السدي : كان قصاراً ، وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة ، وكان مؤمناً وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وقوله : { يسعى } تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح .

ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى : { قال } واستعطفهم بقوله تعالى : { يا قوم } وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله { اتبعوا المرسلين } أي : في عبادة الله تعالى وحده ، فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله { اتبعوا } النصيحة وقوله { المرسلين } إظهار إيمانه ، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله { يسعى } دل على إرادته النصح .

فإن قيل : ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال : { اتّبعون أهدكم } ( غافر : 38 )

وهذا قال : { اتبعوا المرسلين } ؟ أجيب : بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال : اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم .