روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

وقوله تعالى : { عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } بدل اشتمال من { علم بالقلم } [ العلق : 4 ] أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولاً وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانياً من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكما لكرمه عز وجل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة والسلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في «الإرشاد » وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقاً به وأيد بقراءة ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث صرح فيها بذلك وقال الجبائي أن { اقرأ } الأول أمر بالقراءة لنفسه وقيل مطلقاً والثاني أمر بالقراءة للتبليغ وقيل في الصلاة المشار إليها فيما بعد وجملة { وَرَبُّكَ } الخ تحتمل الحالية والاستئنافية وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبلغي في قول بلغ قوملك { وَرَبُّكَ الاكرم } الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبلغه وأولى الأوجه وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جداً فزعم أن بسم في البسملة متعلق باقرأ الأول و { باسم رَبّكَ } متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء وجوز أيضاً أن يبقى باسم الله على ما هو المشهور فيه و { اقرأ } أمر بإحداث القراءة { إِنَّ رَبَّكَ } متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق { باسم رَبّكَ } بما عنده وتقديم الفعل ههنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظراً للمقام وقيل أنه لو سلم كون غيرها نازلاً قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحاً { باسم رَبّكَ } أي قل { باسم الله } ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلاً فضلاً عن أن يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام ولو قدم الجار أفاد معنى آخر وهو أن المطلوب عند القراءة أن يكون الافتتاح باسم الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل الفعل مسلماً على ما هو عليه من زمان طلباً كان أو خبراً وأجاب من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من اقرأ الأول فلا تغفل والظاهر أن المعلم بالقلم غير معين وقيل هو كل نبي كتب وقال الضحاك هو إدريس عليه السلام وهو من خط وقال كعب هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب وقد نسبوا لآدم وإدريس عليهما السلام نقوشاً مخصوصة في كتابة حروف الهجاء والذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به وقد قيل فيه :

لعاب الأفاعي القاتلات لعباه *** وأرى الجني اشتارته أيد عواسل

ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه :

ورواقم رقش كمثل إراقم *** قطف الخطى نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجد مسيرها *** إلا إذا لعبت بها بيض المدى

ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب وظاهر الآثار أن الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفهيم حادثة لاسيما في أهل الحجاز وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة وأنهم أخذوها من أهل الأنبار وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب بن أمية وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة به وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ أبوك هذا الخط فقال من أسلم بن أسدرة وقال سألت أسلم ممن أخذت هذا الخط فقال من واضعه مرامر بن مرة وقيل كان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شان عندهم فلا يتعاطاها إلا من أذن له في تعلمها وأصناف الكتابة كثيرة وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفاً العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا إن صح باعتبار الأصول وإلا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف غيره تعالى بالأكرم كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفاً نازلاً ويستهجنونه بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون به اليهودي والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول { وربك الأكرم } [ العلق : 3 ] فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكراً كرمه الذي أولاه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

{ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ، ويسر له أسباب العلم .

فعلمه القرآن ، وعلمه الحكمة ، وعلمه بالقلم الذي به تحفظ به العلوم ، وتضبط الحقوق ، وتكون رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم ، فلله الحمد والمنة ، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور ، ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، ولم يكن يعلمه ، مع أشياء غير ذلك ، مما علمه ولم يكن يعلمه ....

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون أضاف ذلك إلى نفسه لما يخلق منهم فعل تعلمهم .

{ والثاني } : إضافته إليه للأسباب التي جعلها لهم في التعليم ، والله أعلم . ثم ذلك التعليم بالقلم لأمته لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علمه إياه بلا كتابة ولا خط حين قال : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } ( العنكبوت : 48 ) .

ثم في تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا قلم ولا كتابة آية عظيمة لرسالته حين جعله بحال يحفظ بقلبه بلا إثبات ، ولا كتابة ، ولا خط خطه . ثم قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } يحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم....

ويحتمل قوله تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } كل إنسان كقوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ( النحل : 78 ) . ...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عَلَّمهم ما لم يعلموا : الضروريَّ ، والكسبيَّ . ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

يحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك ولم يذكر واو النسق ، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدا ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم ما لم يعلمه ، فيكون قوله : { علم الإنسان ما لم يعلم } بيانا لقوله : { علم بالقلم } . ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره ؛ بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ....

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{ علم الإنسان ما لم يعلم } أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه .

وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالملأ الأعلى ، بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .

كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .

والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة ، ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم ، ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . . ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . .

وهذه الحقيقة القرآنية الأولى ، التي تلقاها قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره ، وتصرف لسانه ، وتصرف عمله واتجاهه ، بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .

قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : " زاد المعاد في هدى خير العباد " يلخص هدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ذكر الله :

" كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله ، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له ، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له ، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه ، وفي مشيته وركوبه ، وسيره ونزوله ، وظعنه وإقامته ...

وهكذا كانت حياته كلها [ صلى الله عليه وسلم ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] . وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء .

...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

والمهمّ في الأمر أنّ هذه الآيات نزلت على نبيّ أمي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الأمية والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق ! هذه الآيات تتحدث في الواقع أوّلاً عن تكامل «جسم» الإنسان من موجود تافه هو «العلقة» ، ثمّ عن تكامل «روحه» بواسطة التعليم والتعلّم خاصّة عن طريق القلم . حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضاً لا يعير أهمية تذكر للقلم . أمّا اليوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور كل الحضارات والعلوم ....