نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

ولما نبه بذلك على ما في الكتابة من المنافع التي لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى ، لأنها انبنت عليها استقامة أمور الدنيا والدين في الدنيا والآخرة ، وهي كافية في الدلالة على دقيق حكمته تعالى ولطيف تدبيره ، زاد ذلك عظمة على وجه يعم غيره فقال : { علّم } أي العلم الضروري والنظري { الإنسان } أي الذي من شأنه الأنس بما هو فيه لا ينتقل إلى غيره ؛ بل ينساه إن لم يلهمه ربه إياه { ما لم يعلم * } أي بلطفه وحكمته لينتظم به حاله في دينه من الكتاب والسنة ودنياه من المعاملات والصنائع ، فيفيض عليه من علمه اللدني الذي لا سبب له ظاهر ما يعرف به ترتيب المقدمات بالحدود والوسطى ، فيعلم النتائج ، وما يعرف به الحدسيات ، وذلك بعد خلق القوى ، ونصب الدلائل ، وإنزال الآيات ، ولو كان ذلك بالأسباب فقط لتساوى الناس في مدة التعليم ، وفي أصل المعلوم ، كما تساووا في مدة الحمل وأصل الإنسانية ، وقد ذكر سبحانه مبدأ الإنسان ومنتهاه بنقله من أخس الحالات إلى أعلاها تقريراً لربوبيته ، وتحقيقاً لأكرميته ، قال الملوي : ولو كان شيء من العطاء والنعم أشرف من العلم لذكره عقب صفة الأكرمية - انتهى ، وفي ذلك إشارة إلى مزيد كرم العلماء بالتعليم .

وفي الآية الإشارة إلى مطالعة عالمي الخلق والأمر ، قال الرازي : وفي كل من العالمين خصوص وعموم - انتهى ، فالمعنى أنه يعلمك أيها النبي الكريم وإن كنت أمياً لا تعلم الآن شيئاً كما علم بالقلم من لم يكن يعلم ، فتكون أنت - بما أشارت إليه صفة الأكرمية على ما أنت فيه من الأمية - أعلم من أهل الأقلام - وأعلى من كل مقام سام .