السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

{ علم الإنسان ما لم يعلم } فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموه ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به . ولبعضهم في صفة القلم :

ورواقم رقش كمثل أراقم *** قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجدّ مسيرها *** إلا إذا لعبت بها بيض المدى

وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى ، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش ، فدل على كمال كرمه تعالى . وروى عبد الله بن عمر قال : «قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : نعم ، فاكتب ، فإنّ الله تعالى علم بالقلم » . ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال : ريح لا يبقى ، فقال : فما قيده ؟ قال : الكتابة . وعن عمر قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ، ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان ، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام .

وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال :

أحدها : قال كعب : أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام .

ثانيها : قال الضحاك : إدريس عليه السلام .

ثالثها : أنه جميع من كتب بالقلم ؛ لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى .

وقال القرطبي : الأقلام ثلاثة في الأصل :

القلم الأوّل : الذي خلقه الله تعالى بيده ، وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ .

والثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن .

والثالث : أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ، ويصلون بها إلى مآربهم .

وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة » . قال بعض العلماء : وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال ، وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر ، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك ، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة ؛ لأنها قد تكتب لمن تهوى ، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط إشارة اليد ، وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان ، فهي أبلغ من اللسان ، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها .