محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ} (5)

ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئا فقال : { علم الإنسان ما لم يعلم } أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها مبلغالم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ، فهل يستغرب من هذا المعلم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ، ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها ؟ انتهى .

تنبيهات :

الأول ما قال الإمام ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة ) في مباحث عجائب الإنسان ، وما في خلقه من الحكم : ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين : البيان النطقي والبيان الخطي ، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمه على العبد ، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه ، فذكر أولا عموم الخلق - وهو إعطاء الوجود الخارجي - ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الإنسان ؛ لأنه موضع العبرة ، والآية فيه عظيمة ، ومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم ، وذكر مادة خلقه ههنا من العلقة ، وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها ، أما مادة الأصل - وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار - أو مادة الفرع - وهو الماء المهين ، وذكر في هذا الموضع أول مبادىء تعلق التخليق وهو العلقة - فإنه كان قبلها نطفة ، فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة ، ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده ؛ إذ به تخلد العلوم ، وتثبت الحقوق ، وتعلم الوصايا ، وتحفظ الشهادات ، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين ، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست السنن ، وتخبطت الأحكام ، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف ، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم ، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان ، فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم ، والتعليم به وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة ، فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ، وفضل أعطاه الله إياه ، وزيادة في خلقه وفضله ، فهو الذي علمه الكتابة ، وإن كان هو المتعلم ، ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم ، فإنه علمه فتعلم ، كما أنه علمه الكلام فتكلم هذا ، ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ، واللسان الذي يترجم به ، والبنان الذي يحط به ، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه ، وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد ، فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم ، فقف وقفة في حال الكتابة ، وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، وضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم ، وأصناف العلوم ، وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل ، فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صار نقشا عجيبا معناه أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك ، وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ويترجم عنك ، ويتكلم على لسانك ، ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله سوى من علم بالقرآن ما لم تعلم ؟

والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهني ، والوجود اللفظي ، والوجود الرسمي ، فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب ، ودل قوله { خلق } على أنه يعطي الوجود العيني ، فدلت هذه الآيات مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما ، وذكر خلقين وتعليمين : خلقا عاما وخلقا خاصا ، وتعليما خاصا وتعليما عاما ، وذكر من صفاته ههنا اسم { الأكرم } الذي هو فيه كل خير وكل كمال ، فله كل كمال وصفا ، ومنه كل خير فعلا ، فهو { الأكرم } في ذاته وأوصافه وأفعاله ، وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه لا من حاجة دعته إلى ذلك وهو الغني الحميد .

الثاني قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله بكتابه ، وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات ، فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبههم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليها رؤساؤهم ، وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل ، وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، وإن لم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله أبدا .

الثالث قال الرازي : في قوله { باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة ، وفي قوله { الذي علم بالقلم } إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع ، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية ، والثاني إلى النبوة ، وقدم الأول على الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية .