روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} (207)

{ مَا أغنى عَنْهُمْ } أي أي شيء أو أي غناء أغنى عنهم { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها . وأياً ما كان فالاستفهام للنفي والإنكار .

وقيل : ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه ، والأول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة أوجه كما في «الكشاف » ، الأول : أن قوله سبحانه : { أَفَرَأَيْتَ } [ الشعراء : 205 ] الخ متصل بقوله تعالى : { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } [ الشعراء : 203 ] وقوله جل وعلا : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [ الشعراء : 204 ] معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها ، والمعنى على هذا كما في «الكشف » أنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه : إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أياماً قلائل فهو لاحق بهم لا محالة وهنالك لا ينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الإيمان ، وأصل النظم الكريم لا يؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فإن متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الأيام القلائل فجىء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر إفادة لمعنى التعجب والإنكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب .

ووسط { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [ الشعراء : 204 ] للتبكيت والهمزة فيه للإنكار ، وجيء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل : أيستعجل هذا العذاب عاقل . وفي «الإرشاد » اختيار أن قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } [ الشعراء : 105 ] متصل بقوله سبحانه : { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } [ الشعراء : 203 ] وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [ الشعراء : 204 ] معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون الخ ، وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال : إن العطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له ، ولعل المنصف يقول : لكل وجهة .

والثاني : أن قوله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } حكى لنا لطفاً { ويستعجلون } عليه في معنى استعجلتم إذ كذلك يقال لهم ذلك اليوم ، وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر ، وارتباط { اتقى أَفَرَأَيْتَ } الخ بقولهم : { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } على نحو ما تقدم في الوجه السابق .

والثالث : أن قوله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة . وأمن فقال عز وجل : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أشراً وبطراً واستهزاءً واتكالاً على الأمل الطويل ثم قال سبحانه : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم .

وعلى هذا يكون { فبعذابنا } الخ عطفاً على مقدر بلا خلاف نحو أيستهزؤن { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } .

وقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } الخ تعجباً من حالهم مترتباً على الاستهزاء والاستعجال ، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك : هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فأحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة .

وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله ، وأياً ما كان فقوله سبحانه : { بعذابنا } متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل . وقرئ { كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } من الإمتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب . روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت .