روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (142)

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف ( سيق ) لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول ، و { أَمْ } منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري ، وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف ، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادىء الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى ، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها .

{ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } حال من ضمير { تَدْخُلُواْ } مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول ، ولهذا قيل :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ، ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب ، نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع ، حمق وجهالة ، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي . ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق ؛ إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى ، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيراً ما يقال : ما علم الله تعالى في فلان خيراً ويراد ما فيه خير حتى يعلمه ، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا ؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب «الانتصاف » الثاني ، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة ، وفي ذلك رمز أيضاً إلى ترك الرياء ، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس ، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتقاء ذلك ، وعدم تحققه أصلاً وكيف تحقق صفة بدون موصوف ، وفي اختيار { لَّمّاً } على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءاً على ما يفهم من كلام سيبويه أن ( لما ) تدل على توقع الفعل المنفي بها ، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل : قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل ، وإذا قيل : فعل ؟ فجوابه لم يفعل ، فإذا قيل : لقد فعل ، فجوابه ما فعل كأنه قال : والله لقد فعل فقال المجيب : والله ما فعل ، وإذا قيل : هو يفعل يريد ما يستقبل ، فجوابه لا يفعل ، وإذا قيل : سيفعل ، فجوابه لن يفعل ، فقول أبي حيان : «إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحداً من النحويين ذكره » غير متعدّ به ، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار ، وقرىء ، { وَيَعْلَمَ } بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج ، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أومطلقاً ، ومن ذلك قوله :

إذا قلت قدني قال بالله حلفة *** لتغني عني ذا أنائك أجمعا

على رواية فتح اللام ؛ وقيل : إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه ، و { مّنكُمْ } حال من { الذين } و ( من ) فيه للتبعيض ، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية .

{ وَيَعْلَمَ الصابرين } نصب بإضمار أن ، وقيل : بواو الصرف ، والكلام على طرز لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما ، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي ، وقيل : الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع ، ويؤيد ذلك قراءة الحسن { وَيَعْلَمَ الصابرين } بكسر الميم ، وقرىء { وَيَعْلَم } بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم ، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } أي تلجوا عالم القدس { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة .