روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (17)

وقوله تعالى : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ } أي من النفوس البرة والفاجرة { بِمَا كَسَبَتْ } أي من خير أو شر { لاَ ظُلْمَ اليوم } بنقص الثواب وزيادة العقاب { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } [ غافر : 16 ، 17 ] أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعاً . روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جيء به لبيان إجمال فيه ، والتذييل لتعليل ما قبله .

والمنادي بذلك سؤالاً وجواباً واحد . أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : «يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } [ غافر : 16 ، 17 ] فأول ما يبدؤن به من الخصومات الدماء » الحديث ، وهو عند الحسن الله نفسه عز وجل ، وقيل : ملك ، وقيل : السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس .

وذكر الطيبي تقريراً لعبارة الكشاف أن قوله تعالى : { اليوم تجزى } الخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عز وجل ، فإنه سبحانه لما سأل { لّمَنِ الملك اليوم } وأجاب هو سبحانه بنفسه { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع { اليوم تجزى } جواباً عنه يعني إنما اختص الملك بن تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحداً وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن فيسرع الحساب ، ولو أوقع { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } جواباً عن أهل المحشر لم يحسن هذا الاستئناف انتهى ، وفيه ما فيه .

والحق أن قوله تعالى : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ } الخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس ، وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك اليوم عقيب السؤال والجواب . وأياً ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة . وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائماً . وذهب محمد بن كعب القرظي إلى أن السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفنى عز وجل الخلائق . وروي نحوه عن ابن عباس .

أخرج عبد بن حميد في «زوائد الزهد » . وابن أبي حاتم . والحاكم وصححه . وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال : «ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار » والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين .

ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجزى خيراً إن كسبت خيراً وشراً إن كسبت شراً . وقيل : إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيآت توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فإذا قامت قيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها . والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذٍ لكن نقول : إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضاً بلذة وألم جسمانيين . فالاقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور .

ومن باب الإشارة : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ } من التجلي { بِمَا كَسَبَتْ } في بذل الوجود للمعبود { لاَ ظُلْمَ اليوم } [ غافر : 17 ] فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك