روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنعام

كما أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى ابن مردويه والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة { قل تعالوا أتل } إلى تمام الآيات الثلاث وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين { قل تعالوا أتل } والتي بعدها وأخرج أبو الشيخ أ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا : نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نرلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال : ما أنزل الله على بشر من شيء الآية وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة فانها مدنية وقال غير واحد : كلها مكية إلا ست آيات وما قدروا الله حق قدره إلى تمام ثلاث آيات { وقل تعالوا أتل } إلى آخر الثلاث وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمسة وستون وعند البصريين والشاميين ست وستون وعند الحجازيين سبع وستون وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عليه الصلاة والسلام : لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال : من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى تكسبون بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة ادخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال : أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غي ذلك من الأخبار وغالبا في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أ أيضا كذلك وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل مرة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة ورويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا وقد روي ما يخالفه انتهى ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ما قال بعض الفضلاء أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلاما زمان كما قال سبحانه : { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : أنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة { لله ملك السماوات والأرض وما فيهن } على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز أسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشيء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى : { قل لمن ما في السماوات } الخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان ثم قال عز من قائل : { وله ما سكن في الليل والنهار } فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وانزال الماء و إخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أ أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم } الخ وذكر جل شأنه بعده { ما جعل الله من بحيرة } الخ فاخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الايجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه واقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته اباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ولهذ السورة أ أيضا اعتلاق من جهة بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى : { رب العالمين } وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه : الذي خلقكم والذين من قبلكم وقوله عز اسمه الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا وبآل عمران من جهة تفصيلا لقوله جل وعلا والأنعام والحرث وقوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } الخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الاسفرايني : إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث أن فيها ابطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا

{ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ * السموات والارض } جملة خبرية أو إنشائية . وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود . وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد إخباراً يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق إخباره اسم قطعاً فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم . ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال : بعت بائع .

واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا ليقيل لقائل : ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } [ البقرة : 233 ] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء لحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر ، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة . وأجابوا عما يلزم كلاً من المحذور . نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه ، وقيل : إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها . ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستيعاد والتعجب . ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولاً : باسم الذات ووصفه تعالى ثانياً : بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الإنعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة . ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم : إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي .

وقد صرح الإمام في «شرح الإشارة » عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات . فالأولى : في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر . والثانية : وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقاً للعبادة . والثالثة : وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه . ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه كما قال الشهاب لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلاً أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات .

ولذا قال أهل الظاهر

: صفاته لم تزد معرفة *** لكنها لذة ذكرناها

فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم . والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقاً له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل . وسمي ذاتياً لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسنداً إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسنداً إلى الذات . وذكر بعض محققي المتأخرين كلاماً في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام .

وحاصله أن اللام الجارة في «لله » لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل { له الحمد } [ سبأ : 1 ] إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضاً لما بقي فرق بين الحمد لله وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وأن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محموداً عليه غالباً وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصوراً عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عز وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعماً على عباده وجب كون الحمد حقاً لله تعالى واجباً على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضاً وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقاً بالحمد مجرداً عن القصر والاستيجاب . ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة { الحمد للَّهِ } فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب ، نعم في ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقاً لله تعالى واجباً على عباده مختصاً به عز شأنه مقصوراً عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف .

ثم قال : وبالجملة إن جملة { الحمد * الله } مدعى ومدلول .

وقوله سبحانه وتعالى : { الذى خَلَقَ } الخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولاً على ما قيل وبالوصف ثانياً حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محموداً عليه وعلة لاستحقاق الحمد ، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللاً بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها ، وأيضاً اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل . وأما ما يقال : إنما قيل { الحمد للَّهِ } بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محموداً عليه .

وقد يقال : إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوبين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم . وما يدل عليه إجمالاً أقيم مقامه فكأنهم قالوا : الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل : الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السموات والأرض ولكونه كذا وكذا . وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محموداً عليه وإنما الحقيق لأن يكون محموداً عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى .

فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت : فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات على ما قيل : هل له وجه أم لا ؟ قلت : أما كون الذات الصرف محموداً عليه ، وكذا كون الذات محموداً عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له .

/ وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفاً جميلاً صالحاً لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محموداً عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء ، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محموداً عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى ، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحاً أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد .

وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة { الحمد للَّهِ } هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السموات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم ، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين { الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } [ سبأ : 1 ] وبين { وَلَهُ الحمد فِى الاخرة } [ سبأ : 1 ] مما محصله أن جملة { لَهُ الحمد } جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الإنعام بنعم الآخرة مختصاً به تعالى بخلاف جملة { الحمد للَّهِ الذى لَهُ } الخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصد لعدم كون الإنعام مختصاً به تعالى مطلقاً بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه ، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة { الحمد للَّهِ الذى لَهُ } الخ بخلاف جملة { لَهُ الحمد } ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة { الحمد للَّهِ } إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضاً غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير ، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الآخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك .

وجمع سبحانه السموات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضاً والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم . ولذا عيب على أبي نواس قوله

: ومالك فاعلمن فينا مقالا *** إذا استكملت آجالاً ورزقاً

حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل ، وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف . وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلاً وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك . والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتلبيغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس لأنها ليس بدار قرار ، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها ، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد ، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعاً منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا ، ولهذا الشرف أيضاً قدمت على الأرض في الذكر ، وقيل : إن جمع السموات وإفراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم ، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول .

وحاصله إن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض .

واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس ، وقال بعضهم : إنه لا تعدد حقيقياً في الأرض ، ولهذا لم تجمع ، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم : «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين » فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة ، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها ؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام »

والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية ، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته ، والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم : " بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السموات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام " ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيراً ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين .

وقوله تعالى : { الله الذى خَلَقَ سَبْعَ * سموات *وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي ، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أوام كل صاد ، وحمل المماثلة في الآية أيضاً على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر . ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام . وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السموات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم . وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض ، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام . وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد . والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السموات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين .

{ وَجَعَلَ الظلمات والنور } عطف على { خُلِقَ * السموات } داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتباً عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل ، والجعل كما قال شيخ الإسلام الإنشاء والإبداع كالخلق خلا إن ذلك مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضاً كما في قوله سبحانه : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 301 ] وأياً ما كان ففيه إنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغواً كان أو مستقراً لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيداً فيه ، وقيل : «الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين » أي كونه محصلاً من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية .

واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذٍ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل بمجرد هذا ، وأيضاً أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه ، وأيضاً أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا } [ النحل : 80 ] { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [ الفرقان : 53 ] إلى غير ذلك . وأجيب بما لا يخلو عن نظر .

وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه : { خلقَ * السموات والارض } أو لما قدمناه في البقرة . وقيل : لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد ، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضاً لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاءً ظاهراً حيث قرنا بالسموات والأرض . وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده .

وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالاً لقائل . وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر ، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء وهو باطل ، أما أولاً : فلأن كونها أنواراً إما أن يكون هو عين كونها أجساماً وإما أن يكون مغايراً لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم ، وأما إن قيل : إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء فهو أيضاً باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوساً وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعاً ازدادت ستراً لكن الأمر بالعكس ، وأما ثانياً : فلأن الشعاع لو كان جسماً لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة ، وأما ثالثاً : فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أو لا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل : إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل : إنها عدمت فهو أيضاً باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسماً لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها .

وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضىء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل . وأما رابعاً : فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم ، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم ( بيان الصغرى بثلاثة أوجه ) ، الأول : أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة . والثاني : أنه يتحرك وينتقل بحركة المضىء . والثالث : أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة والجواب : أن قولهم : الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل . وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل ، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر ، وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضىء في ذلك الجسم .

ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعاً ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور . الأول : أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية ، والأول : باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيراً إلا أن تجدده . والثاني : يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى ، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظياً . وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية . الثاني : أن البياض قد يكون مضيئاً ومشرقاً وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعاً فلو كان كون كل منهما مضيئاً نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضاداً للبعض وهو محال إذ الضوء لا يقابله إلا الظلمة .

الثالث : أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلاً قد لا يكون مضيئاً وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذٍ يرى ضوؤه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير . الرابع : أن المضىء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قوياً فيهما جميعاً فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقاً ساذجاً ، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوؤه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة ، وفرق الإمام بين النور والضوء والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال : إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة ، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشىء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءاً والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نوراً ، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعاً . والذي يكون للشيء من غيره كما للمرآة يسمى بريقاً . وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضاً ، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور ، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة ، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات .

وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فهما العدم والملكة المشهوران ، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب ، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيئة لقبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في «حكمة العين وشرحها » ، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل . وقال المولى ميرزاجان : لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلاً للوجودي ، ولا يكفي نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلاً له ، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب .

قال في «الشفاء » : العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة ، وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى ، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام ، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود : إن عدم الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات . ولذا قال الإمام : إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن . وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث ، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية ، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل ، وتحقيقه على ما قيل أن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئاً وتصييره قائماً به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجوداً عينياً ، وفي «الطوالع » أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك .

{ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } يحتمل أن يكون { يَعْدِلُونَ } فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية ، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو بمعنى كفران النعمة ، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون ، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه ، ثم هي إما معطوفة على جملة { الحمد للَّهِ } إنشاءً أو إخباراً أو على قوله سبحانه : { خُلِقَ } صلة { الذى } أو على { الظلمات } مفعول { جَعَلَ } فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع ، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار ، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه ، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين .

والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه ، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته .

و { ثُمَّ } لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية ، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام ، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد ، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول ، فالظاهر أنها حينئذٍ متعلقة بما قبلها ، وما قاله المحقق التفتازاني من أنه لا مخصص لكل من توجيهي { بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذٍ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه ، وذلك لأنه إذا قيل مثلاً في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة ، ولا يناسب أن يقال : إنهم يسوون به غيره إذ لم يسبق صريحاً وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية ، وإذا قيل مثلاً في الصورة الثانية : إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال : ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه .

وقال بعض المحققين : إذا كان المعنى على الأول : الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسان العدول عنه ، وعلى الثاني : المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواهه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته ، فوجه التخصيص في الأول : أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولى نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره ، وفي الثاني : أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر .

واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ماله ذلك ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محموداً عليه . وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه ، وفي ذلك تعظيم منبىء عن كمال الاستحقاق ، وقد يقال : وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلاً اختيارياً ، وما ذكر ليس كذلك فعليه لا بد من التأويل .

وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور «أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الإنباء ( ولو ) في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه ، وادعاء أن له دخلاً فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل : الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات ( الآتية ) ( 1 ) لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان ( نهاية ) ( 1 ) إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء المذكور ، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بروادفها ؛ وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام » انتهى . ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته ، وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال .

واعترض أيضاً بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم : أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل : ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح .

وأجيب بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيراً ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره ، والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النحاة : إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم .

واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد «بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه ( لتحققه مع إغفاله أيضاً ) فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصوداً بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي » ؛ وأجيب بأنه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيهاً للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل ، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك ، والذي تصدح به كلماتهم أن صلة { يَعْدِلُونَ } على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وإنما قدروا له مفعولاً على تقدير أن يكون من العدل بمعنى التسوية فقالوا : غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول ، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم { بِرَبّهِمْ } على احتمال تعلقه بما بعد لذلك ، ويجوز أن يكون للاهتمام .

وقال بعض المحققين : إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه . ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب . هذا وأخرج ابن الضريس في «فضائل القرآن » . وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن كعب قال : فتحت التوراة ب { الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ * السموات والارض *وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } وختمت ب { الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } إلى قوله سبحانه وتعالى { وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } [ الإسراء : 111 ] .

( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض } أي سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم ، ويقال : الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة { وَجَعَلَ الظلمات } أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك ، ويقال : الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام وقال بعضهم : الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب . ثم بعد ظهور ذلك { الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته