روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (43)

{ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي لأي سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة ، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ } أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة { وَتَعْلَمَ الكاذبين } أي في ذلك . فحق سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } كؤنه قيل : لم سارعت إلى الاذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم .

ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقاً لاستلزامه أن يكون أذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد ، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه .

وتوجيه الإنكار إلى الاذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز { حتى } والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايدان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً جادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب ، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد علم له صلى الله عليه وسلم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين لما أن المقصود ههنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم ؛ وإسناد التبين إليهم وتعليف العلم بالآخرين من أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه . وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام ، وكثيراً ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال : عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمرى ؟ ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي ؟ والغرض التعظيم ، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :

عفا الله عنك ألا حرمة *** تجود بفضلك يا ابن العلا

ألم تر عبداً عدا طوره *** ومولى عفا ورشدا

هدى أقلني أقالك من لم يزل *** يقيك ويصرف عنك الردي

ومما ينظم في هذا السلك ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : «لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني » . وأخرج ابن المنذر . وغيره عن عون بن عبد الله قال : سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة . وقال السجاوندي : إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب . وعن سفيان بن عيينة أنه قال : انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو . ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت . وفي الانتصاف ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد الأمرين إما أن لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصاً في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام .

ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعد له ما عبر عنه ببئسما ، والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال : أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية ، وليس تفسيره هذا بناءاً على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ .

وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبراً ، على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالاستقصاء كقوله صلى الله عليه وسلم : «رحم الله تعالى أخي لوطاً لقد كان يأوى إلى ركن شديد » وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة ، وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى ، ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول ، وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر ، ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة ، وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك ، هذا واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة والسلام ، وذلك من وجهين :

الأول : أن العفو يستدعي سابقة الذنب .

الثاني : أن الاستفهام الانكاري بقوله سبحانه : { لِمَ أَذِنتَ } يدل على أن ذلك الاذن كان معصية ، والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا : لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ } [ التوبة : 47 ] الخ ، وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } [ التوبة : 46 ] الآية ، نعم كان الأولى تأخير الاذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان .

ومن الناس من ضعف الاستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن { عَفَا الله } يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا تسلم أن قوله سبحانه : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة والسلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكاراً ، أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه ، وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم .

واستدل بها جمع على أن له صلى الله عليه وسلم اجتهاداً وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر ، وما فعله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر بفعلهما كما أخرج ابن جرير . وغيره عن عمرو بن ميمون ، ثانيهما أخذه صلى الله عليه وسلم الفداء من الاسارى وقد تقدم . وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين ، واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس ، وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد .

( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] الخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب ، ولو قال له : لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب ، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار ، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الأذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليه السلام قوله : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِى } [ هود : 45 ] بقوله سبحانه : { قَالَ يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } إلى قوله تبارك وتعالى : { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] ومن ذلك يعلم الفرق وهو لعمري غير خفي بين مقام الحبيب ورتبة الصفى ، وقد قيل : إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه ، وأنشد :

ما حطك الواشون عن رتبة *** كلا وما ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا *** عليك عندي بالذي عابوا

وقال الآخر :

في وجهه شافع يمحو إساءته *** عن القلوب ويأتي بالمعاذير

وقال :

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع