التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعۡرِضُونَ} (3)

لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثباتُ وحدانية الله تعالى ، وإثباتُ البعث والجزاء ، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما ، جُعِل قوله : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } [ الأحقاف : 2 ] تمهيداً للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء ، فجُعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق ، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخَلق إلا ملابساً للحق ، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلْقاً عبثاً بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون . واستثناءُ { بالحق } من أحوال عامة ، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق .

وقوله : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله : { بالحق } ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفاً لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم ، والتقدير : إلا خلقاً كائناً بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق .

وصاحب الحال هو { السماوات والأرض } ، والمعنى : ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما . وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق .

وعطف { وأجل مسمى } على { بالحق } ، عطفُ الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى : { وملائِكتهِ ورسله وجبريل وميكائيل } في سورة البقرة ( 98 ) لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق ، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه ، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال ، وقد كان ظن الدهريين قدمَ هذا العالم وبقاءَه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيَا وما يُهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] . فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان ، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية . فجملة { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } مرتبطة بالاستثناء في قوله : { إلا بالحق } ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث .

وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب { أنذروا } . والتقدير : عما أنذروه معرضون . ويجوز أن تكون { ما } مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير . والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه .

وتقديم { عما أنذروا } على متعلقه وهو { معرضون } للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعۡرِضُونَ} (3)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"ما خَلَقْنا السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما إلاّ بالحَقّ" يقول تعالى ذكره: ما أحدثنا السموات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا، وما بينهما من أصناف العالم "إلا بالحقّ"، يعني: إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.

وقوله: "وأجَلٍ مُسَمّى "يقول: وإلاّ بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو بلغه، ويعدمه بعد أن كان موجودا بإيجاده إياه.

وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ" يقول تعالى ذكره: والذين جحدوا وحدانية الله عن إنذار الله إياهم معرضون، لا يتعظون به، ولا يتفكرون فيعتبرون.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

أي ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي صار إنشاء ذلك وخلقُه حكمة، لأنه لو كان الأمر على ما ظن أولئك الكفرة، وتوهّموا بأن لا بعث، ولا جزاء من ثواب أو عقاب كان إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وخلقُ ذلك كله عبثا باطلا على ما تقدّم ذكره في غير موضع، والله أعلم. وقوله تعالى: {والذين كفروا عما أُنذروا معرِضون} يحتمل: {عما أُنذروا معرضون}] وجوها:

أحدها: بما ألزمهم من النظر والتفكّر في ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما أنشأ فيهما من المنافع، وجعل ذلك لهم آية، لم يفعل ذلك كله عبثا باطلا، ولكن لعاقبة تقصد ولأمر يراد؛ إذ عرفوا بعقولهم أنه لا يجوز خلقُ الخلق على أن يُهمَلوا، ويُتركوا سُدى، لا يُؤمرون، ولا يُنهون، ولا يُمتحنون، فأعرضوا عما ألزمهم من النظر والتفكّر في ذلك، فهم مُعرِضون إعراض ترك النظر والتّفكّر، والله أعلم.

والثاني: بما أُنذِروا بما نزل بمن تقدّمهم من مُكذّبي الرسل عليهم السلام.

والثالث: بما أُنذروا، وأوعدهم من العذاب في الآخرة. فهم مُعرضون عن ذلك كله، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعناه: إنا لم نخلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، ومعناه إنه لم توجد السموات والأرض وما بينهما من الأجناس إلا للحق وتعريض الخلق لضروب النعم، وتعريض المكلفين للثواب الجزيل، ولم نخلقهم عبثا ولا سدى بل عرضناهم للثواب بفعل الطاعات وزجرناهم بالعقاب عن فعل المعاصي، وقدرنا لهم أوقاتا نبعثهم إليها وأوقاتا نجازيهم فيها "وأجل مسمى "أي مذكور للملائكة في اللوح المحفوظ...

"معرضون" أي عادلون عن الفكر فيه والاعتبار به...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مُعْرِضُونَ} لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... فهذا يدل على إثبات الإله بهذا العالم، ويدل على أن ذلك الإله يجب أن يكون عادلا رحيما بعباده، ناظرا لهم محسنا إليهم، ويدل على أن القيامة حق...

{إلا بالحق} معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان، وأن الإله يجب أن يكون فضله زائدا وأن يكون إحسانه راجحا، وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم...

دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة، وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السموات والأرض وما بينها إلا بالحق. وأما قوله تعالى: {وأجل مسمى} فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء {إلا بالحق} وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل، ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده، فيقع الجزاء في الدار الآخرة، فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا.

ثم قال تعالى: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار، بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها، وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال، وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

المعنى: فانتبهوا أَيُّهَا الناسُ، وانظروا ما يُرَادُ بكم ولِمَ خُلِقْتُمْ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ما خلقنا} أي على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرد بالكبرياء {السماوات والأرض} على ما فيهما من الآيات التي فصل بعضها في الجاثية. ولما كان من المقاصد هنا الرد على المجوس وغيرهم ممن ثبت خلقاً لغير الله قال: {وما بينهما} أي من الهواء المشحون بالمنافع وكل خير وكل شر من أفعال العباد وغيرهم...

.

{إلا بالحق} أي الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرف المطلق...

{وأجل مسمى} أي لبعث الناس إلى دار القرار لفصل أهل الجنة من أهل النار، وفناء الخافقين وما نشأ عنهما من الليل والنهار. ولما كان التقدير: وأمرنا الناس بالعمل في ذلك الأجل بطاعتنا ووعدناهم عليها جنان النعيم، فالذين آمنوا على ما أنذروا مقبلون، ومن غوائله مشفقون، فهم بطاعتنا عاملون، عطف عليه ما السياق له من قوله: {والذين كفروا} أي ستروا من أعلام الدلائل ما لو خلوا أنفسهم وما فطرناها عليه لعلموه فهم لذلك {عما أنذروا} ممن هم عارفون بأن إنذاره لا يتخلف {معرضون} ومن غوائله آمنون، فهم بما يغضبنا فاعلون، شهدت عندهم شواهد الوجود فما سمعوا لها ولا أصغوا إليها وأنذرتهم الرسل والكتب من عند الله فأعرضوا عنها واشمأزوا منها.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهي بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعي أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء، لئلا يتساوى من أحسن في الدار الأولى ومن ساء فيها...

{والذين كفروا عما أنذروا معرضون} أي مع نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب – بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنى لهم ذلك؟ فهم صم بكم عمي لا يعقلون...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أي: لا عبثا ولا سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما وبقاءهما مقدر إلى {أَجَلٍ مُسَمًّى}... فلما أخبر بذلك -وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر -مع ذلك- أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحق، وصدوفا عن دعوة الرسل فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم، وتلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالانقياد والتعظيم ففازوا بكل خير، واندفع عنهم كل شر...

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً، ولا لعباً ولا عبثاً...

. وقوله تعالى في آية الأحقاف هذه {وَأَجَلٍ مُّسَمًى} معطوف على قوله: {بِالْحَقِّ} أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسعى، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات الحجر في قوله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} [الحجر: 85] الآية. فقوله في الحجر: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} بعد قوله {إِلاَّ بِالْحَقِّ} يوضح معنى قوله في الأحقاف {إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى}...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

إِلاَّ بِالْحَقّ} الذي يريد الله له أن يتحرك في الوجود ليكون السرَّ الأعمق فيه وفي حركته؛ على مستوى التكوين الذي يدخل في معنى الخلق، وعلى مستوى التشريع الذي يدخل في مضمون الإرادة الإنسانية في حركة الالتزام، {وَأَجَلٍ مُّسَمًى} فقد جعل الله للأشياء عمراً محدوداً بالغاية التي خلقت لأجلها...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

انتفاء العبث عن الله تعالى في خلقه السموات والأرض. وما بينهما وفي كل أفعاله وأقواله...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق) فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً نشازاً لا ينسجم والحق، فالكل منسق منتظم، وكله مقترن بالحق. لكن، كما أنّ لهذا الكون بداية، فإنّ له نهاية أيضاً، ولذلك تضيف الآية: (وأجل مسمى) فإذا حل الأجل ستفنى الدنيا بما فيها، ولما كان هذا العالم مقترناً بالحق ويسير ضمن منهجه، وله هدف مرجو، فمن الطبيعي أن يوجد عالم آخر تُبحث فيه الأعمال وتعلن فيه النتائج، وبناءً على هذا، فإنّ كون هذا العالم حقّاً دليل بنفسه على وجود المعاد، وإلاّ فإنّه سيكون لغواً وعبثاً لا فائدة فيه، وسيقترن حين ذلك بكثير من المظالم والمفاسد. لكن مع أنّ القرآن حق، وخلق العالم حق أيضاً: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم بأن محكمة عظمى أمامهم، هذا من جانب...