مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعۡرِضُونَ} (3)

وأما قوله { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } فهذا يدل على إثبات الإله بهذا العالم ، ويدل على أن ذلك الإله يجب أن يكون عادلا رحيما بعباده ، ناظرا لهم محسنا إليهم ، ويدل على أن القيامة حق .

أما المطلوب الأول : وهو إثبات الإله بهذا العالم ، وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير ، وآثار التقدير ظاهرة في السموات والأرض من الوجوه العشرة المذكورة في سورة الأنعام ، وقد بينا أن تلك الوجوه تدل على وجود الإله القادر المختار .

وأما المطلوب الثاني : وهو إثبات أن إله العالم عادل رحيم فيدل عليه قوله تعالى : { إلا بالحق } لأن قوله { إلا بالحق } معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان ، وأن الإله يجب أن يكون فضله زائدا وأن يكون إحسانه راجحا ، وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم ، قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السموات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده ، وإلا لزم أن يكون خالقا لكل باطل ، وذلك ينافي قوله { ما خلقناهما إلا بالحق } أجاب أصحابنا وقالوا : خلق الباطل غير ، والخلق بالباطل غير ، فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل ، قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى : { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما } يدل على كونه تعالى خالقا لكل أعمال العباد ، لأن أعمال العباد من جملة ما بين السموات والأرض ، فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض ، والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض ، فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم .

وأما المطلوب الثالث : فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة ، وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السموات والأرض وما بينها إلا بالحق .

وأما قوله تعالى : { وأجل مسمى } فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء { إلا بالحق } وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا ، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل ، ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده ، فيقع الجزاء في الدار الآخرة ، فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا .

ثم قال تعالى : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار ، بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها ، وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا .