التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (18)

جملة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } عطف على جملة { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } . وهي كالتكملة لها لأنها نتيجة لما تضمنّته تلك الأدلّة من الامتنان كما تقدم . وهي بمنزلة التذييل للامتنان لأن فيها عموماً يشمل النعم المذكورة وغيرها .

وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس بحيث لا يستطيع عدّها العادّون ، وإذا كانت كذلك فقد حصل التّنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم .

وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم ، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم ، وتغليظ التهديد لهم . وتقدم نظيرها في سورة إبراهيم .

وجملة { إن الله لغفور رحيم } استئناف عُقب به تغليظ الكفر والتّهديد عليه تنبيهاً على تمكّنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك ، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون ، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون .

وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم ، إذ وقع هنالك { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } [ سورة إبراهيم : 34 ] لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديدٍ عقب قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا } [ سورة إبراهيم : 28 ] فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله .

وأما هذه الآية فقد جاءت خطاباً للفريقين كما كانت النّعم المعدودة عليهم منتفعاً بها كلاهما .

ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم لظلوم كفار } بوصفين هنا { لغفور رحيم } إشارة إلى أن تلك النّعم كانت سبباً لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته . والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان .