فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (18)

ثم لما فرغ من تعديد الآيات ، التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم ، قال : { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم . قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان ، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل ، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له ، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها ، أو يتمكن من شكر أدناها ؟

يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها ، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، ولا نطيق التعبير بالشكر لك ، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوارتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك ، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك ، وما أحسن ما قال من قال :

العفو يرجى من بني آدم *** فكيف لا يرجى من الربّ

فقلت مذيلاً لهذا البيت الذي هو قصر مشيد :

فإنه أرأف بي منهم *** حسبي به حسبي به حسبي

وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه ، والقصور عن إحصائها ، والعجز عن القيام بأدناها ، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها . اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كل زمان ، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان ، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك ، وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أرَ عليه بقيتها ، فأني أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها ؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها ؟

/خ19