التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَهُمۡ فِيهَا لَا يَسۡمَعُونَ} (100)

الزفير : النفَس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغمّ . وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام . وقرينة معاد الضمائر واضحة .

وعطف جملة { وهم فيها لا يسمعون } اقتضاه قوله { لهم فيها زفير } لأن شأن الزفير أن يُسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقِدون السمع بهذه المناسبة .

فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق .

وقد روى ابن إسحاق في « سيرته » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النَضْر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش ، فتَلا رسول الله عليهم : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزِبَعْرَى السهمي قبل أن يُسلم فحدثه الوليد بن المغيرة بما جرى في ذلك المجلس فقال عبدالله بن الزِبعْرى : أما والله لو وجدتُه لخصمته ، فاسألوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع مَن عبدوهم ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهودُ تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم .

فحُكِي ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : إن كلّ من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبَده ، إنهم إنما يعبدون الشيطانَ الذي أمرهم بعبادتهم ، فأنزل الله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : 101 ] اه .

وقريب من هذا في « أسباب النزول » للواحدي ، وفي « الكشاف » مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا وزاد فقال : خُصِمْتَ وربّ هذه البَنِيّة ألستَ تزعم أن الملائكة عباد مكرمَون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، وهذه بنو مُلَيْح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى يعبدون المسيح ، وهذه اليهود يعبدون عزيراً ، فضجّ أهل مكة ( أي فرَحاً ) وقالوا : إن محمداً قد خُصم . ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزِبَعْرى : مَا أجهلك بلغة قومك إني قلت { وما تعبدون } ، و ( ما ) لمَا لا يعقل ولم أقل « ومَن تعبدون » .

وإن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذاراً للمشركين حتى يكون قوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] تخصيصاً لها ، أو تكون القصة سبباً لنزوله .