التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَهَٰذَا ذِكۡرٞ مُّبَارَكٌ أَنزَلۡنَٰهُۚ أَفَأَنتُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ} (50)

قد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشىء هو عنه ، وهو المقابلة بقوله تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون } .

واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته . ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } في [ سورة النحل : 44 ] .

ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير ؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته ، وهو أيضاً خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية ، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فما استطاعوا . وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان ، وانتفع به مَن آمنوا به وفريق ممن حرموا الإيمان . فكان وصفه بأنه مبارك وافياً على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء .

وزاده تشريفاً بإسناد إنزاله إلى ضمير الجَلالة . وجُعل الوحي إلى الرسول إنزالاً لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذْ اعتبر مستقِرّاً في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم .

وفُرّع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى : { أفأنتم له منكرون } . ولكون إنكارهم صدقه حاصلاً منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسماً دالاً على الاتّصاف في زمن الحال وجَعْل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاءً بحق بلاغة النظم .