التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا ٱلَّذِي يَذۡكُرُ ءَالِهَتَكُمۡ وَهُم بِذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ هُمۡ كَٰفِرُونَ} (36)

هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبه ، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } .

والهُزُؤُ بضم الهاء وضم الزاي مصدر هَزَأ به ، إذا جعله للعبث والتفكه . ومعنى اتِّخاذه هُزْؤاً أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق . وتقدم في سورة [ الكهف : 106 ] قوله تعالى : { واتخذوا آياتي ورسلي هزؤاً } وجملة { أهذا الذي يذكر آلهتكم } مبيّنة لجملة { إن يتخذونك إلا هزؤاً } فهي في معنى قول محذوف دل عليه { إن يتخذونك إلا هزؤاً } لأن الاستهزاء يكون بالكلام . وقد انحصر اتخاذُهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه .

والاستفهام مستعمل في التعجيب ، واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، بقرينة الاستهزاء .

ومعنى { يذكر آلهتكم } يذكرهم بسوء ، بقرينة المقام ، لأنهم يعلمون ما يذكر به آلهتهم مما يسوءهم ، فإن الذكر يكون بخير وبشرَ فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا وكما في قوله تعالى الآتي : { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } [ الأنبياء : 60 ] . وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب ، ولذلك أعْقبه الله بجملة الحال وهي { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } ، أي يغضَبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكُنْهِها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمان الذي هو الحقيق بأن يذكروه . فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام . والأظهر أن المراد بذكر الرحمان هنا القرآن ، أي الذكر الوارد من الرحمان . والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر . ومعنى كفرهم بذكر الرحمان إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] . وأيضاً كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث .

وعبر عن الله تعالى باسم { الرحمان } تَورُّكاً عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمان اسماً لله تعالى : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } في سورة [ الفرقان : 60 ] .

وضمير الفصل في قوله تعالى : { هم كافرون } يجوز أن يفيد الحصر ، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أنّ هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر .

ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقاً لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر .