التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ} (56)

آذنت الغاية التي في قوله : { حتى تأتيهم الساعة بغتة } [ الحج : 55 ] أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا ، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية : وعن ماذا يلقونه عند زوالها ، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } إلى آخر ما فيها من التفصيل ، فهي استئناف بياني .

فقوله { يومئذ } تقدير مضافه الذي عُوّض عنه التنوين : يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق ، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة .

وجملة { يحكم بينهم } اشتمال من جملة { الملك يومئذ لله } .

والحكم بينهم : الحكمُ فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل ، الدال عليه قوله : { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك } [ الحج : 54 ] وقوله : { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } [ الحج : 55 ] فقد يكون الحكم بالقول ، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق ، وقد فُصل الحكم بقوله : { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله ، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم .

وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه . وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويهاً بشأن الهجرة ، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر .

والتعريف في { الملك } تعريف الجنس ، فدلّت جملة { الملك يومئذ لله } على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون مِلكاً لله ، كما تقدم في قوله تعالى { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] أي لا ملك لغيره يومئذ .

والمقصود بالكلام هو جملة { يحكم بينهم } إذ هم البدل . وإنما قدمت جملة { الملك يومئذ لله } تمهيداً لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه .