التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ} (60)

اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتاً لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبراً عن اسم الإشارة . وقد تقدم نظيره عند قوله : { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } [ الحج : 30 ] .

وجملة { ومن عاقب } الخ ، معطوفة على جملة { والذين هاجروا في سبيل الله } [ الحج : 58 ] الآية .

والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقاً بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } إلى قوله : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } [ الحج : 3940 ] ، فإنه قد جاء معترضاً في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرِهم النعمَ ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات ، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلاً يرضونه .

وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده .

وما صْدَقُ ( مَن ) الموصولة العموم لقوله فيما سلف { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جَزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضاً قوله { بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] .

وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله { أذن للذين يقاتلون } [ الحج : 39 ] إلى أسلوب الإفراد في قوله { ومن عاقب } للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم .

ولما أتي في الصلة هنا بفعل { عاقَب } مع قصد شمول عموم الصلة للذين أُذِن لهم بأنهم ظُلموا عَلم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق .

وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلاً للعدوان المجزى عليه ، أي أن لا يكون أشدّ منه .

وسُميّ اعتداء المشركين على المؤمنين عقاباً في قوله { بمثل ما عوقب به } لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم . ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } [ الحج : 40 ] .

ومعنى { بمثل ما عوقب به } المماثلةُ في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرْغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن . ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه ، إما بالقتال فهو إخراج كامل ، أو بالأسر .

و { ثمّ } من قوله : { ثم بغي عليه } عطف على جملة { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } ، ف ( ثم ) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءاً بالظلم كما يقال « البادىء أظلم » . فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين .

ومعنى الآية في معني قوله : { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] .

وكان هذا شرعاً لأصول الدفاع عن البيضة ، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض ، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عُوقبوا به ، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبىء عن حَيرة في تلئيم معانيها .

وجملة { إن الله لعفو غفور } تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله : { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } دون الزيادة في الانتقام مع أن البادىء أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قَضَيَا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق . ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له : بم دام ملككم ؟ فقال : لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغَضب ، فليس ذكر وصفي { عفو غفور } إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين .

ويجوز أن يكون تعليلاً للوعد بجزاء المهاجرين اتباعاً للتعليل في قوله : { إن الله لعليم حليم } [ الحج : 59 ] لأن الكلام مستمر في شأنهم .