التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةٗۚ وَهَٰذَا كِتَٰبٞ مُّصَدِّقٞ لِّسَانًا عَرَبِيّٗا لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِينَ} (12)

أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو « التوراة » مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها ، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } [ الأحقاف : 10 ] كما تقدم .

ففي قوله : { ومن قبله كتاب موسى } إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهاية سابقة معلومة أشهره « كتاب موسى » ، أي « التوراة » وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود . وضمير { من قبله } عائد إلى القرآن . وتقديم { من قبله } للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة .

وعبر عن « التّوراة » ب { كتاب موسى } بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو « التوراة » لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحاً إلى مثار نتيجة قياس القرآن على « كتاب موسى » بالمشابهة في جميع الأحوال .

و { إماماً ورحمة } حالان من { كتاب موسى } ، ويجوز كونهما حالين من { موسى } والمعنيان متلازمان .

والإمام : حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياساً لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقاً شائعاً على القدوة قال تعالى : { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] . وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة ، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ ، وموسى إمام أيضاً بمعنى القدوة .

والرحمة : اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي ، رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه . ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سبباً في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة .

ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة ، وموسى أيضاً رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] .

وقوله : { وهذا كتاب مصدق } الخ هو المقيس على { كتاب موسى } . والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات .

والمصدِّق : المخبر بصدق غيره . وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية ، قال تعالى : { مصدقا لما بين يديه } ، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة . وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنياً عنها ومبيناً لما فيها . والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها . وما حُرّف فهمه بها قال تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] .

وزاده ثناء بكونه { لساناً عربياً } ، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس ، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى ، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل .

وأدمج لفظ { لسانا } للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذٍ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفَى عنها المساوي ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق » وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال : { فإنما يسرناه بلسانك } [ مريم : 97 ] .

وقوله : { لتنذر الذين ظلموا } يجوز أن يتعلق ب { مصدقا لما بين يديه } لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في { كتاب } من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة . وهذا أحسن ليكون { لتنذر } علة للكتاب باعتبار صفته وحاله .

والذين ظلموا هم المشركون { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان . والنّذارة مراتب والبشارة مثلها .

و { بشرى } عطف على { مصدق } ، والتقدير : وهو بشرى للمحسنين ، أي الكتاب ، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم .

وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوبُ { لتنذر } بالمثناة الفوقية خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصفُ كتابه بأنه { بشرى } وفيه احتباك . وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي .