ثم بين تعالى نعمته في أن جعل { الأرض قراراً } ومهاداً للعباد ، { والسماء بناء } وسقفاً .
وقرأ الناس : «صُوركم » بضم الصاد . وقرأ أبو رزين : «صِوركم » بكسر الصاد{[10017]} . وقرأت فرقة : «صوركم » بكسر الواو على نحو بسرة وبسر .
وقوله تعالى : { من الطيبات } يريد من المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب وغير ذلك ، ومتى جاء ذكر { الطيبات } بقرينة { رزقكم } ونحو فهو المستلذ ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }{[10018]} وكما قال : { ويحل لهم الطيبات }{[10019]} والطيبات في مثل هذا : الحلال ، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات والخبائث ، وقول الشافعي رحمه الله : إن الطيبات هي المستلذات ، والخبائث ، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها ، وأما حيث وقعت الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر ، لا سيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار ، فإنما عددت عليه النعمة التي يعتقدونها نعمة ، وباقي الآية بين .
{ الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَاءً } .
استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله : { الله الذي جَعَل لكُمُ الليْلَ لِتَسكنوا فيهِ } [ غافر : 61 ] كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإِنعام عليهم حتى يفتضح خطَلُهم في الإِشراك به وكفراننِ نعمه ، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم ، وهما عَرَضا الظلمة والنور ، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس ، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلْق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم ، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم ، فأما إن جعلتَ اسم الجلالة في قوله : { الله الذي جعَل } الخ بدلاً من { ربكم } في { وقال ربكم ادعوني } [ غافر : 60 ] ، فإن جملة { الله الذي جعل لكم الأرض قراراً } تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قولَه : { ذلكم الله رَبُّكُم } وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته . ويجوز أن يكون الموصول خبراً فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان والاعتبار ، ولمّا كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله : { لكم } قُدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم .
والقرار أصله ، مصدر قرّ ، إذا سكن . وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض ، فالمعنى يحتمل : أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كُرة الهواء مضطربة متحركة ، ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها ، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله : { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } في سورة [ الأنبياء : 31 ] .
ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قَرار ، أي قَرارٍ لكم ، أي جعلها مستقَراً لكم كقوله تعالى : { وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالاً كالزئبق أو كالعَجَل فلا يزال الإنسان سائخاً فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة ، وذلك كوسَط سبخة ( التَّاكْمَرْتْ ) {[360]} المسماة : « شط الجريد » الفاصل بين « نفطة » و« نفزاوة » من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يُعثر عليها ، ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهُداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبَة ، فكانت خلقة الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإِنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض .
والبناء : ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب . ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ ، وتقدم الكلام مستوفى عند قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } في سورة [ البقرة : 22 ] .
{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } .
لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحفّ بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإِنسان وراحته قد تعلقت بإيجاد الإِنسان في ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقَب التذكيرَ بما مَهَّد له من خلق الأرض والسماء ، بالتذكير بأنه خلقه خلقاً مستوفياً مصلحتَه وراحتَه .
وعبّر عن هذا الخلق بفعل { صوركم } لأن التصوير خلق على صورة مرادة تشعر بالعناية ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم } [ الأعراف : 11 ] فاقتضى حسن الصور فلذلك عُدل في جانب خلق الإِنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله : { وصوركم } فهو كقوله تعالى : { الذي خلقك فسوّاك فعدّلَك في أي صورة } [ الانفطار : 7 ، 8 ] ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإِتقان والتحسين بقوله : { فأحْسَن صُوَركم } . والفاء في قوله : { فأَحْسَن صُوَركم } عاطفة جملة على جملة ودالّة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة .
وعطف على هذه العبرة والمنة منةٌ أخرى فيها عبرة ، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسننِ رزق ، فجمع لكم بين الإِيجاد والإِمداد ، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملاً على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قُواه الحَيوية وكان في قوله : { ورزقكم } إيماء إلى نعمة طُول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب وجمع له بين حسن الإِيجاد وبين حسن الإِمداد فجَعل ما به مددَ الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين }
موقع { ذلكم الله ربكم } كموقع نظيره المتقدم آنفاً . وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض ، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله : { لا إله إلاَّ هو فأنَّى تُؤفكون } [ غافر : 62 ] ، وقرينةِ قوله هنا : { لا إله إلا هُو فادعوه مخلصين له الدين } [ غافر : 65 ] .
وفُرِّع على ما ذُكِرَ من بدائع صنعه وجزيل منّهِ . أن أنشِيءَ الثناءُ عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال : { فَتَبَارك الله } ، وفعل { تبارك } صيغةُ مفاعلة مستعملة مجازاً في قوةِ ما اشتُقّ منه الفعل . وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البَركَة ، والبركَة : اسم يدل على تزايد الخير . وإظهار اسم الجلالة مع فعل { تبارك } دون الإِتيان بضمير مع تقدم اسمه ، فالإِظهار لتكون الجملة كلمةَ ثناء مستقلة .
و { رَبِّ العالمين } خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ . وهذا الوصف من تمام الإِنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضاراً لما أفاضه عليهم من خيرات الإِيجاد والإمداد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: اللّهُ الذي له الألوهة خالصة أيها الناس "الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ "التي أنتم على ظهرها سكان "قَرَارا" تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، "والسّماءَ بِناءً": بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم "وَصَوّرَكمْ فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ" يقول: وخلقكم فأحسن خلقكم، "وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطّيّباتِ" يقول: ورزقكم من حلال الرزق، ولذيذات المطاعم والمشارب.
وقوله: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ" يقول تعالى ذكره: فالذي فعل هذه الأفعال، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم، هو الله الذي لا تنبغي الألوهة إلا له، وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره، لا الذي لا ينفع ولا يضرّ، ولا يخلق ولا يرزق "فَتَبارَكَ اللّهُ رَبّ العَالمِينَ" يقول: فتبارك الله مالك جميع الخلق جنهم وإنسهم، وسائر أجناس الخلق غيرهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} يذكّرهم عظم نعمه عليهم حين جعل لهم الأرض بحيث يقرّون عليهم، ويتعيّشون، والسماء بناء عليهم بحيث لا تسقط عليهم، وجعل منافع بعضها متصلة بمنافع البعض على بعد ما بينهما ليُعلم أن ذلك كله صنع واحد.
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: {فأحسن} أي أحكم.
والثاني: قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي أحسن تركيبها منتصبا؛ أقامها غير مُنكبّة كسائر الصور التي خلقها منكبّة على وجهها.
وقوله تعالى: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قال بعض أهل التأويل: أي رزقكم من الحلال، لكن الأشبه أي رزقكم من أطيب ما أخرج من الأرض، لأن الله تعالى أخرج من الأرض نباتا مختلفا، جعل أطيبه وألينه رزقا للبشر، وسائره رزقا للدواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَصَوًّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}: خَلقَ العرشَ والكرسيّ والسماوات والأرضين وجميعَ المخلوقاتِ ولم يقُلْ هذا الخطاب، وإنما قال لنا: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وليس الحَسَنُ ما يستحسنه الناسُ بل الحَسنُ ما يستحسنه الحبيبُ:
لم يَقُلْ للشموس في علائها، ولا للأقمار في ضيائها: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، ولما انتهى إلينا قال ذلك، وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]...
{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ليس الطيبُ ما تستطيبه النفْسُ؛ إنما الطيب ما يستطيبُه القلبُ، فالخبزُ القفار أطيب للفقير الشاكر من الحلواء للغنيِّ المتَسَخِّط، ورِزْقُ النفوسِ الطعامُ والشرابُ، ورزقُ القلوبِ لذاذات الطاعات.
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته إما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس.
أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره.
(وثانيها) الأرض والسماء وهو المراد من قوله {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء} قال ابن عباس في قوله {قرارا} أي منزلا في حال الحياة وبعد الموت.
{والسماء بناء} أي قائما ثابتا وإلا لوقعت علينا.
وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان، ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم، والمذكور منها في هذه الآية قسمان:
أحدها: ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله.
والثاني: ما كان حاصلا في ابتداء خلقته وتكوينه.
أما القسم الأول: فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة:
أولها: حدوث صورته وهو المراد من قوله {وصوركم}.
وثانيها: حسن صورته وهو المراد من قوله {فأحسن صوركم}.
وثالثها: أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله {ورزقكم من الطيبات}.
ولما ذكر الله تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال: {ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} وتفسير تبارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء.
{الذي جعل} أي وحده {لكم الأرض قراراً} مع كونها في غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته {والسماء} على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار {بناء} ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك: ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً.
ولما ذكر المسكن ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره، وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال: {وصوركم} والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع.
{فأحسن صوركم} على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسندوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.
ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال: {ورزقكم من الطيبات} الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان، وتبث من الساكن -مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض- أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض، وعمهم به الرزق.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إذا أردت أن تعرف حسن الآدمي وكمال حكمة الله تعالى فيه، فانظر إليه، عضوًا عضوًا، هل تجد عضوًا من أعضائه، يليق به، ويصلح أن يكون في غير محله؟
وانظر إلى ما خصه الله به من العقل والإيمان، والمحبة والمعرفة، التي هي أحسن الأخلاق المناسبة لأجمل الصور.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وهذا شامل لكل طيب، من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، ومنظر، ومسمع، وغير ذلك، من الطيبات التي يسرها الله لعباده، ويسر لهم أسبابها، ومنعهم من الخبائث، التي تضادها، وتضر أبدانهم، وقلوبهم، وأديانهم.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} المربي جميع العالمين بنعمه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَاءً} استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله: {الله الذي جَعَل لكُمُ الليْلَ لِتَسكنوا فيهِ} كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها؛ لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإِنعام عليهم حتى يفتضح خطَلُهم في الإِشراك به وكفرانِ نعمه، فأما إن جعلتَ اسم الجلالة في قوله: {الله الذي جعَل} الخ بدلاً من {ربكم} في {وقال ربكم ادعوني}، فإن جملة {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً} تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً. والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قولَه: {ذلكم الله رَبُّكُم} وهو أولى؛ لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته. ويجوز أن يكون الموصول خبراً فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان والاعتبار.
القرار أصله، مصدر قرّ، إذا سكن. وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض، فالمعنى يحتمل: أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة.
ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قَرار، أي قَرارٍ لكم، أي جعلها مستقَراً لكم كقوله تعالى: {وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة.
والبناء: ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب. ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ.
{ورزقكم} إيماء إلى نعمة طُول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب.
{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين} موقع {ذلكم الله ربكم} كموقع نظيره المتقدم آنفاً. وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله: {لا إله إلاَّ هو فأنَّى تُؤفكون}
وفُرِّع على ما ذُكِرَ من بدائع صنعه وجزيل منّهِ. أن أنشِيءَ الثناءُ عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال: {فَتَبَارك الله}، وفعل {تبارك} صيغةُ مفاعلة مستعملة مجازاً في قوةِ ما اشتُقّ منه الفعل. وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البَركَة، والبركَة: اسم يدل على تزايد الخير.
وإظهار اسم الجلالة مع فعل {تبارك} دون الإِتيان بضمير مع تقدم اسمه، فالإِظهار لتكون الجملة كلمةَ ثناء مستقلة.
و {رَبِّ العالمين} خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ. وهذا الوصف من تمام الإِنشاء؛ لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضاراً لما أفاضه عليهم من خيرات الإِيجاد والإمداد...