المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (52)

«إخواء البيوت » وخرابها مما أخبر الله تعالى به في كل الشرائع أنه مما يعاقب به الظلمة وفي التوراة . ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، و { خاوية } نصب على الحال التي فيها الفائدة ، ومعناها خالية قفراً{[9040]} ، قال الزجاج وقرئت «خاويةُ » بالرفع وذلك على الابتداء المضمر أي «هي خاوية » ، أو على الخبر عن تلك ، و { بيوتهم } بدل أو على خبر ثان ، وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين » الحديث{[9041]} .


[9040]:هذا رأي الفراء والنحاس، والمعنى أنها صارت خرابا ليس ساكن، وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصبت [خاوية] على القطع، مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصبت على الحال.
[9041]:أخرجه البخاري في الصلاة والمغازي، ومسلم في الزهد، وأحمد (2-58، 72، 74، 91، 113، 137)، ولفظه كما في المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين أصحاب الحجر إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (52)

وتفريع قوله : { فتلك بيوتهم خاوية } على جملة : { دمرناهم } لتفريع الإخبار . والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام .

وانتصب { خاوية } على الحال . وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى : { وهذا بعْلِي شيخاً } وقد تقدم في سورة هود ( 72 ) .

والخاوية : الخالية ، ومصدره الخَواء ، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها .

والباء في بما ظلموا } للسببية ، و ( ما ) مصدرية ، أي كان خَواؤها بسبب ظلمهم . والظلم : الشرك وتكذيب رسولهم ، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته ، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق .

ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثراً في خراب بلادهم .

وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال : أجد في كتاب الله أن الظلم يخرّب البيوت وتلا : { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } . وهذا من أسلوب أخذ كل ما يُحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .

ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره ، وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلاً في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يُردّ بعضها إلى بعض باختلاف الاعتبار . فالشرك مثلاً حقيقة معروفة يكون بها جنساً عقلياً وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم ، أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه ، ومثل الفسق فإنه من آثاره ، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضاً : { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] ، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضاً . فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع ، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس ، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم ، ناهيك أن الشرك من أنواعه . وكذلك قوله : { إن الله لا يهدي من هو مُسرف كذّاب } [ غافر : 28 ] أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيراً من المسرفين والكاذبين بالتوبة ، ومن قوله : { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } [ الزمر : 60 ] ونحو ذلك .

وجملة : { إن في ذلك لآية } معترضة بين الجمل المتعاطفة . والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم . والآية : الدليل على انتصار الله لرسله .

واللام في { لقوم يعلمون } لام التعليل يعني آية لأجلهم ، أي لأجل إيمانهم . وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون .

وفي ذكر كلمة ( قوم ) إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية ، كما تقدم في قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) .