المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

وقوله تعالى : { وما من دابة*** . . } الآية ، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله { يعلم ما يسرون وما يعلنون } . و «الدابة » ما دب من الحيوان ، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب ، وقد قال الأعشى : [ الطويل ]

نياف كغصن البان ترتج إن مشت*** دبيب قطا البطحاء في كل منهل{[6265]}

وقال علقمة بن عبيدة :

. . . . . . . . . *** لطيرهن دبيب{[6266]}

وفي حديث أبي عبيدة : فإذا دابة مثل الظرب{[6267]} يريد من حيوان البحر ، وتخصيصه بقول { في الأرض } إنما هو لأنه الأقرب لحسهم : والطائر والعائم إنما هو في الأرض ، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما .

وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك .

وقوله تعالى : { على الله } إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً . و «المستقر » : صلب الأب : و «المستودع » بطن الأم ، وقيل «المستقر » : المأوى ، و «المستودع » القبر ، وهما على هذا الطرفان ، وقيل «المستقر » ، ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما يوجد بعد . قال القاضي أبو محمد : و «المستقر » على هذا - مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى . وقوله : { في كتاب } إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال بعض الناس : هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى .


[6265]:- من قصيدة له يقول في مطلعها: صحا القلب من ذكرى قُتيلة بعد ما يكون لها مثل الأسير المكبّل والنياف: الطويلة التامة الحسن. والقطا: جمع قطاة، وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أفحوصة في الأرض، ويطير في جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقّط، ومشيته رشيقة، والمنهل: المورد، أي الموضع الذي فيه المشرب.
[6266]:-هو علقمة بن عبدة الفحل، أحد كبار الشعراء المعاصرين لامرئ القيس، والجملة جزء من بيت قاله ضمن قصيدته: طحا بك قلب في الحسان طروب، وهو بتمامه: كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب وصابت: أمطرت، والدبيب: المشي الضعيف الخفيف. والمعنى: إن الممدوح إذا هجم على أعدائه كان كالسحابة التي تتفجر بالصواعق وتتهاطل كالطير عجزت عن التحليق فدبت تطلب النجاة، وفي البيت حركة تصور الجيش في كرّه، والطبيعة في صواعقها، والطير في دبيبها على الأرض.
[6267]:-الحديث في البخاري "شركة ومغازي" وفي الموطأ "صفة النبي"، وفي مسند الإمام أحمد 3/ 306، ولفظه كما جاء في المسند عن جابر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ثلاثمائة، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فنفذ زادنا، فجمع أبو عبيدة زادهم فجعله في مزود، فكان يقيتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، وما كانت تغني عنكم تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين ذهبت حتى انتهينا إلى الساحل، فإذا حوت مثل الظرب العظيم، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أخذ أبو عبيدة ضلعين من أضلاعه فنصبهما ثم أمر براحلته فرحلت فمر تحتهما فلم يصبها شيء). والظرب: الجبل المنبسط، أو الجُبيل (بالتصغير) كما قال في أساس البلاغة.