الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

قوله تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " " ما " نفي و " من " زائدة و " دابة " في موضع رفع ، التقدير : وما دابة . " إلا على الله رزقها " " على " بمعنى " من " ، أي من الله رزقها ، يدل عليه قول مجاهد : كل ما جاءها من رزق فمن الله . وقيل : " على الله " أي فضلا لا وجوبا . وقيل : وعدا منه حقا . وقد تقدم بيان هذا المعنى في " النساء{[8601]} " وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء . " رزقها " رفع بالابتداء ، وعند الكوفيين بالصفة ، وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي ؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق . وقيل : هي عامة في كل{[8602]} دابة : وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها ، ووجه النظم به قبل : أنه سبحانه أخبر برزق الجميع ، وأنه لا يغفل عن تربيته ، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم ؟ ! والدابة كل حيوان يدب . والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي ، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده . ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك ؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها ، وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال : إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل . وقال تعالى : " وفي السماء رزقكم{[8603]} " [ الذاريات : 22 ] وليس لنا في السماء ملك ، ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره ، وذلك محال ؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه . وقد تقدم في " البقرة{[8604]} " هذا المعنى والحمد لله . وقيل لبعضهم : من أين تأكل ؟ وقال : الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين ، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق . وقيل لأبي أسيد : من أين تأكل ؟ فقال : سبحانه الله والله أكبر ! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد ! . وقيل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟ فقال : من عند الله ، فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء ؟ فقال : كأن ماله إلا السماء ! يا هذا الأرض له والسماء له ، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض ، وأنشد :

وكيف أخاف الفقر والله رازقي *** ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلق كلهم *** وللضبِّ في البيداء والحوت في البحر

وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " بإسناده عن زيد بن أسلم : أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم ، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا{[8605]} من الزاد ، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله ، فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأصحابه : أبشروا أتاكم الغوث ، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاؤوا ، ثم قال بعضهم لبعض : لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته ، فقالوا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به ، قال : ( ما أرسلت إليكم طعاما ) فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع ، وما قال لهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك شيء رزقكموه الله ) .

قوله تعالى : " ويعلم مستقرها " أي من الأرض حيث تأوي إليه . " ومستودعها " أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن ، قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال الربيع بن أنس : " مستقرها " أيام حياتها . " ومستودعها " حيث تموت وحيث تبعث . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : " مستقرها " في الرحم " ومستودعها " في الصلب . وقيل : " يعلم مستقرها " في الجنة أو النار . " ومستودعها " في القبر ، يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار : " حسنت مستقرا ومقاما " [ الفرقان : 76 ] " ساءت مستقرا ومقاما{[8606]} " [ الفرقان : 66 ] . " كل في كتاب مبين " أي في اللوح المحفوظ .


[8601]:راجع ج 5 ص 273.
[8602]:من ع
[8603]:راجع ج 17 ص 41.
[8604]:راجع ج 1 ص 177 فما بعد.
[8605]:أرملوا من الزاد: أي نفد زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل، كما قيل للفقير الترب.
[8606]:راجع ج 13 ص 72 و ص 82