المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ} (98)

هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم و { الكتاب } التوراة ، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم ، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون ، و «آيات الله » يحتمل أن يريد بها القرآن ، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { الله شهيد على ما تعملون } وعيد محض : أي يجازيكم به ويعاقبكم ، قال الطبري : هاتان الآيتان قوله ، { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون } وما بعدهما ، إلى قوله { أولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] ، نزلت بسبب رجل من يهود ، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج ، قال ابن إسحاق{[3362]} : حدثني الثقة عن زيد بن أسلم ، مر شاس ابن قيس اليهودي ، وكان شيخاً قد عسا{[3363]} في الجاهلية ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، والحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، وهم في مجلس يتحدثون ، فغاظه ما رأى من جماعتهم ، وصلاح ذات بينهم ، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة{[3364]} بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً من يهود ، فقال أمد إليهم ، واجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث{[3365]} ، وما كان قبله من أيام حربهم ، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ، ففعل الفتى ، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي{[3366]} ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبار بن صخر{[3367]} من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما : لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة{[3368]} ، فغضب الفريقان : وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ، يريدون الحرة ، فخرجوا إليها ، وتحاور الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضاً من الأوس والخزرج ، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات{[3369]} ، وقال الحسن وقتادة والسدي : إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام ، بأن يقولوا لهم ، إن محمداً ليس بالموصوف في كتابنا{[3370]} .

قال الفقيه الإمام : ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم ، فنزلت الآيات في جميع ذلك .


[3362]:- انظر السيرة: 1/555-557.
[3363]:- بمعنى: كبر وأسن.
[3364]:- بنو قيلة: هم الأوس والخزرج وهي أمهم، قضاعية أو غسانية (اللسان: قيل).
[3365]:هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس.
[3366]:- أوس بن قيظي بن عمرو بن زيد الأنصاري الأوسي: شهد أحدا هو وابناه: كنانة، وعبد الله. قيل إنه كان منافقا وهو الذي قال: إن بيوتنا عورة، وقيل: لم يحضر عرابة أحدا مع أبيه ولا مع أخويه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استصغره. "الإصابة 1/87". و"الاستيعاب".
[3367]:- جبار بن صخر بن أمية الأنصاري السلمي شهد بدرا وهو ابن اثنين وثلاثين سنة، ثم شهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين المقداد بن الأسود، توفي سنة ثلاثين في خلافة عثمان وهو ابن اثنتين وستين سنة. "الإصابة: 1/220".
[3368]:- يردها جذعة: أي الحرب، يعيدها من جديد وكأنها لم تسكن.
[3369]:- أخرجه ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ-عن زيد بن أسلم. وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة من عدة طرق. "تفسير الشوكاني 1/336".
[3370]:- يشير بهذا إلى ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم- عن السدي. وما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير- عن قتادة: "تفسير الشوكاني 1/336".