البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ} (98)

{ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون } : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله : { وأولئك لهم عذاب عظيم } أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملأ بني قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم » ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً .

وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة .

وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكر .

وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته ، واستدل بقوله : { وأنتم شهداء } انتهى هذا القول .

وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمجابون عن شبههم في ذلك .

ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به .

ولما ذكر تعالى أنّ في البيت { آيات بينات } وأوجب حجه ، ثم قال : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات الله ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة .

والآيات : هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق .

وقيل : آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم .

ويحتمل القرآن ، ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ والله شهيد على ما تعملون } جملة حالية فيها تهديد ووعيد .

أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله ، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر .

وأتت صيغة « شهيد » لتدل على المبالغة بحسب المتعلق .

لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان .

فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها .

وتقدّم الكلام على « لم » وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار .

وقوله : « على ما تعملون » متعلق بقوله : شهيد .

وما موصولة .

وجوزوا أنْ تكون مصدرية ، أي على عملكم .

/خ101