المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} (56)

وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع ، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته ، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله : { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر ، وقال زيد بن أسلم وسفيان : المعنى خاص ، والمراد : { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي ، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني » ، وقال ابن عباس أيضاً معنى : { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك ، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك . وتحتمل الآية ، أن يكون المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمة ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة ، وهذا كما تقول : البقر مخلوقة للحرث ، والخيل للحرب ، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً ، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة ، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك ، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له »{[10620]} . وقوله : «كل مولود يولد على الفطرة »{[10621]} والحديث .


[10620]:أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس، وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما ورمز له الإمام السيوطي في (الجامع الصغير) بأنه صحيح.
[10621]:أخرجه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن، عن الأسود ابن سريع، ولفظه كما ذكره الإمام السيوطي في (الجامع الصغير):(كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يُهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقد رمز له السيوطي بأنه حديث صحيح.