قوله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار } : بالسيف والقتل ، { والمنافقين } ، واختلفوا في صفة جهاد المنافقين ، قال ابن مسعود : بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه ، وقال : لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر . وقال ابن عباس : باللسان وترك الرفق . وقال الضحاك : بتغليط الكلام . وقال الحسن وقتادة : بإقامة الحدود عليهم . { واغلظ عليهم ومأواهم } في الآخرة ، { جهنم وبئس المصير } . قال عطاء : نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح .
قوله { جاهد } مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة ، وتتنوع بحسب المجاهد فجهاد الكافر المعلن بالسيف ، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه ، ونحو ذلك ، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى الله عليه وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله »{[5784]} ، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات ، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية لكنا نجلب قول المفسرين نصاً لتكون معرضة للنظر ، قال الزجّاج : وهو متعلق في ذلك بألفاظ ابن مسعود : أمر في هذه الآية بجهاد الكفار والمنافقين يالسيف ، وأبيح له فيها قتل المنافقين ، قال ابن مسعود : إن قدر وإلا فباللسان وإلا فبالقلب والاكفهرار في الوجه .
قال القاضي أبو محمد : والقتل لا يكون إلا مع التجليح{[5785]} ومن جلح خرج عن رتبة النفاق ، وقال ابن عباس : المعنى «جاهد المنافقين » باللسان ، وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، قال : وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين .
قال القاضي أبو محمد : ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام ، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام ، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة ، ومذهب الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم ، وأما قوله تعالى : { واغلظ عليهم } فلفظة عامة تتصرف الأفعال والأقوال واللحظات ، ومنه قوله تعالى : { ولو كنت فظاً غليظ القلب }{[5786]} ومنه قول النسوة لعمر بن الخطاب : أنت أفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5787]} ومعنى الغلظ خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }{[5788]} ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم{[5789]} ، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم ، و «المأوى » حيث يأوي الإنسان ويستقر .
لمّا أشعر قوله تعالى في الآية السابقة { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } [ التوبة : 68 ] . بأنّ لهم عذابين عذاباً أخروياً وهو نار جهنم ، تعيَّن أنّ العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل ، فلمّا أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة ، أمر نبيئَهُ بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب ( 60 ، 61 ) في قوله : { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدّة ما كُشفت فيه دخيلتُهم بما تكرّر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين ، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله بجهادهم . والجهاد القتال لنصر الدين ، وتقدّم في قوله تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم } في سورة العقود ( 54 ) .
وقُرن المنافقون هنا بالكفار : تنبيهاً على أنّ سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقّق في المنافقين ، فجهادهم كجهاد الكفار ، ولأنّ الله لمّا قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال : { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم } [ التوبة : 68 ] وأومأ قوله هنالك بأنّ لهم عذاباً آخرَ ، لا جرم جَمعَهم عند شرع هذا العذاب الآخرِ لهم .
فالجهاد المأمور للفريقين مختلف ، ولفظ ( الجهاد ) مستعمل في حقيقتِه ومجازه . وفائدة القرن بين الكفّار والمنافقين في الجهاد : إلقاء الرعب في قلوبهم ، فإنّ كلّ واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامَلَ معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضداً شوكتَهم .
وأمّا جهادهم بالفعل فمتعذر ، لأنّهم غير مظهرين الكفر ، ولذلك تأوّل أكثر المفسّرين الجهادَ بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجّة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها ، وكان غالبُ من أقيم عليه الحدّ في عهد النبوءة من المنافقين . وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم . وحملها الزجّاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد ، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود ، ولكنّهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى .
وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعاً لشأفتهم من بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلمهم ويعرّفهم لحذيفةَ بن اليَمان ، وكان المسلمون يعرفون منهم مَن تكرّرت بوادر أحواله ، وفلتات مقاله . وإنّما كان النبي ممسكاً عن قتلهم سَدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعُمر : « لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه » لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يَبْلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة ، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة ، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين ، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعتْه القبائل وتحقّقه المسلم والكافر ، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم ، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين ، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب ، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها ، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض ، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق .
والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر ، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها ، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين ، وقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية . ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئةَ المسلمين لِجهاد كلّ قوم ينقضون عُرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون ، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته ، وما ذلك إلاّ نفاقٌ من قادَتهم اتَّبعه دَهماؤهم ، ولعلّ هذه الآية كانت سبباً في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصِهم الإيمانَ كما ورد في قصّة الجُلَاس بن سُويد . وكان قد كفَى الله شرّ متولّي كِبْر النفاق عبدِ اللَّه بنِ أبي بننِ سَلول بموته فكان كلّ ذلك كافياً عن إعمال الأمرِ بجهادهم في هذه الآية { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] .
وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالةً بيّنة ، وإن لم يكن أعلن الكفر .
{ واغلظ عليهم } أمر بأنْ يكون غليظاً معهم . والغلظة يأتي معناها عند قوله : { وليجدوا فيكم غلظة } في هذه السورة ( 123 ) .
وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لأنّه جُبل على الرحمة فأمر بأن يتخلّى عن جبلّته في حقّ الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل .
وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفارِ المؤلّفةِ قلوبهم على الإسلام وإنّما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثاً .
وجملة : { وبئس المصير } تذييل . وتقدّم نظيره مرات . والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان ، أي يرجع إليه .
والمصير المكان الذي يصير إليه المرء ، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار ، والجمع بينهما هنا تفنّن .