الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (73)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يا أيها النبيّ جاهد الكفار بالسيف والسلاح والمنافقين.

واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر الله نبيه به في المنافقين؛ فقال بعضهم: أمره بجاهدهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادهم به... عن ابن مسعود، في قوله تعالى: جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه... وقال آخرون: بل أمره بجهاهدهم باللسان... عن ابن عباس، قوله تعالى:"يا أيّها النّبي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ" فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم... وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود، من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين.

فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال: إني مسلم، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم، كان يقرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله لأن أحدهم كان إذا اطلع عليه أنه قد قال قولاً كفر فيه بالله ثم أخذ به أنكره، وأظهر الإسلام بلسانه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم وتولّى الأخذ به هو دون خلقه.

وقوله: "وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ "يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرهاب. وقوله: "ومَأْواهُمْ جَهَنّمُ" يقول: ومساكنهم جهنم، وهي مثواهم ومأواهم. "وَبِئْسَ المَصِيرُ" يقول: وبئس المكان الذي يصار إليه جهنم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل الأمر بالجهاد الفريقين جميعا جهادا بالسيف.

ويحتمل مجاهدة بالحجج والبراهين الفريقين جميعا.

ويحتمل أيضا الأمر بمجاهدة الكفار؛ يجاهدهم بالسيف، ويغلظ القول ويشدده على المنافقين...

فإن كان على مجاهدة الفريقين جميعا بالسيف فهو والله أعلم بالمنافقين الذين انفصلوا عن المؤمنين وخرجوا من بين أظهرهم، وأظهروا الخلاف للمؤمنين بعدما أظهروا الموافقة لهم، فأمثال هؤلاء يجاهدون بالسيف، ويقاتلون به. وهو كقوله: (لئن لم ينته المنافقون) إلى قوله (ملعونين) الآية [الأحزاب: 60و61] أخبر أنهم يؤخذون، ويقتلون أينما وجدوا. فيشبه أن تكون الآية بالأمر بالجهاد في هؤلاء المنافقين...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

...يقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال: {إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجع الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله {جاهد} مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة، وتتنوع بحسب المجاهد؛ فجهاد الكافر المعلن بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه، ونحو ذلك، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى الله عليه وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية... ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين، بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة، ومذهب الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم. وأما قوله تعالى: {واغلظ عليهم} فلفظة عامة تتصرف الأفعال والأقوال واللحظات، ومنه قوله تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب}... الغلظ: خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}. ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم، و «المأوى» حيث يأوي الإنسان ويستقر.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

...

...

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:... مِنَ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمْ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ يُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ، وَيَسْمَعُ أَخْبَارَهُمْ فَيُلْغِيهَا بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَانْتِظَارِ الْفَيْئَةِ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ، وَإِبْقَاءً عَلَى قَوْمِهِمْ، لِئَلَّا تَثُورَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ قَتْلِهِمْ، وَحَذَرًا من سُوءِ الشُّنْعَةِ فِي أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ فَكَانَ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْبَلُ ظَاهِرَ إيمَانِهِمْ، وَبَادِئَ صَلَاتِهِمْ، وَغَزْوَهُمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ، وَتَارَةً كَانَ يَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، وَأُخْرَى كَانَ يُظْهِرُ التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا إقَامَةُ الْحُجَّةِ بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ دَائِمَةً، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ إصَابَةِ الْحُدُودِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ، إنَّمَا الْمُنَافِقُ بِمَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ كَامِنًا، لَا بِمَا تَتَلَبَّسُ بِهِ الْجَوَارِحُ ظَاهِرًا، وَأَخْبَارُ الْمَحْدُودِينَ يَشْهَدُ مَسَاقُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}:

الْغِلْظَةُ نَقِيضُ الرَّأْفَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْقَلْبِ وَقُوَّتُهُ عَلَى إحْلَالِ الْأَمْرِ بِصَاحِبِهِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب، وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد، لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة، ووعدهم بالثواب الرفيع والدرجات العالية، ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} وفي الآية سؤال، وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز، فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه. ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته. واعلم أن الناس ذكروا أقوالا بسبب هذا الإشكال. فالقول الأول: أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك.

وهذا بعيد لأن ظاهر قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} يقتضي الأمر بجهادهما معا، وكذا ظاهر قوله: {واغلظ عليهم} راجع إلى الفريقين.

القول الثاني: أنه تعالى لما بين للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بالظاهر، قال عليه السلام:"نحن نحكم بالظاهر" والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر، فكانت المحاربة معهم غير جائزة.

والقول الثالث: وهو الصحيح: أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد، وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول: إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما يعرف من دليل آخر، وإذا ثبت هذا فنقول: دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف، ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة، وبترك الرفق ثانيا، وبالانتهار ثالثا. قال عبد الله في قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} قال تارة باليد، وتارة باللسان، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه، فمن لم يستطع فبالقلب، وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.

قال القاضي: وهذا ليس بشيء، لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق، فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق، ثم قال: وإنما قال الحسن ذلك، لأحد أمرين، إما لأن كل فاسق منافق، وإما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنابة، وكان من لم يرجع بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً لأعظم المتصفين بالأوصاف المذكورة مفخماً لمقداره بأجل أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {يا أيها النبي} أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال؛ {جاهد الكفار} أي المجاهرين {والمنافقين} أي المساترين كلاًّ بما يليق به من السيف واللسان. ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق موصى به، قال تعالى: {واغلظ عليهم} أي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ما عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في القعود، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال {المنافقين والمنافقات والكفار} فقدم في كل سياق الأليق به؛ ولما كان المعنى: فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا، عطف عليه قوله: {ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم وبئس المصير*}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... تهديد للمنافقين، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم الله تعالى في إنكارهم، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين، وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم، لا بالطلاقة والبشر واللين، وغير ذلك مما يأتي بيانه في هذه السورة. قال عزَّ وجلَّ: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} أي ابذل جهدك في مقاومة الفريقين الذين يعيشون مع المؤمنين بمثل ما يبذلون من جهدهم في عداوتك، وعاملهم بالغلظة والشدة الموافقة لسوء حالهم، وقدم ذكر الكفار في جهاد الدنيا لأنهم المستحقون له بإظهارهم لعداوتهم له صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، والمنافقون يخفون كفرهم وعداءهم ويظهرون الإسلام فيعاملون معاملة المسلمين في الدنيا، وقدم ذكر المنافقين في جزاء الآخرة لأن كفرهم أشد، وعذرهم فيه أضعف، وقد تقدم تفسير الجهاد بمعناه العام المستعمل في القرآن وبمعناه الخاص بالقتال في مواضع أجمعها الاستطراد الذي كتبناه في آخر آية الجزية [ج 10]، وفيها أن الجهاد مشاركة من الجهد، وهو الطاقة والمشقة كالقتال من القتل، وأنه حسي ومعنوي، وقولي وفعلي، واتفق علماء الملة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا أظهروا الكفر البواح بالردة، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو امتنع بعض طوائفهم من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وروي في تفسير الآية المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان، ففسر الكفار هنا بالحربيين، وسيأتي من جهاد المنافقين حرمانهم من الخروج والقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلاته على جنائزهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} أمر رسول الله أن يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر، فقوله: (فليلقه) يفهم منه أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة، فهو إذا بمعنى إزالة المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، رواه الجماعة إلا البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وزاد ابن مسعود لقاء الكافر أو المنافق بوجه مكفهر، أي عبوس مقطب، ولكن لا يظهر جعله دون كراهة القلب، ولا أن كراهة القلب لا تستطاع، ولم نقف على سند هذا الحديث فنعرف مكانه من الصحة. وكان من شمائله صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين، روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)، وكان ذلك الرجل على الراجح عيينة بن حصن الذي تقدم ذكره في المؤلفة قلوبهم في سياق قسمة الغنائم بعد غزوة حنين وسياق مصارف الزكاة، وكان سيد قومه على حماقته، فلقب بالأحمق المطاع، وقد أسلموا تبعاً له فكان إسلامهم أصح من إسلامه. ولا تعارض بين الحديثين لأن حديث عائشة في شمائل النبي وآدابه العامة، وحديث ابن مسعود في معاملة خاصة بالمنافقين والكفار هي من قبيل العقوبة، فالأول: بمعنى قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]، وفي معناه أحاديث كثيرة، والثاني: مفسر للآية التي نحن بصد تفسيرها وفي معناها قوله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة:123]، والغلظة في اللغة الخشونة والشدة، ومعاملة العدو المحارب بهما من الشيء في موضعه، ومعاملته باللين والرحمة وضع لهما في غير موضعهما: ووضع الندى في موضع السيف في العلا ==مضر كوضع السيف في موضع الندى. وأما الأعداء غير المحاربين كالمنافقين الذين قال الله عنهم لرسوله: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} [المنافقون:4] والكفار المعاهدين والذميين الخائنين فكان صلى الله عليه وسلم يعاملهم أولاً بلطفه ولينه بناء على حكم الإسلام الظاهر، وكانت هذه المعاملة هي التي جرأت المنافقين على أذاه بما تقدم في هذا السياق، ومنه قولهم فيه: [هو أذن]، وكذلك كفار اليهود كان صلى الله عليه وسلم عاهدهم ووفى لهم، وكانوا يؤذونه حتى بتحريف السلام عليه بقولهم: السام عليكم، وهو الموت فيقول: (وعليكم) ثم تكرر نقضهم لعهده حتى كان من أمرهم ما تقدم بيانه في تفسير سورة الأنفال (ج 10)، فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم، ومثلها بنصها في سورة التحريم، وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله للأعداء الحربيين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم. ومن كلام عمر رضي الله عنه فيه: أذلوهم ولا تظلموهم. وهذه الغلظة الإدارية [أي غير الطبيعية] تربية للمنافقين وعقوبة، يرجى أن تكون سبباً لهداية من لم يطبع الكفر على قلبه، وتحيط به خطايا نفاقه، فإن اكفهراره صلى الله عليه وسلم في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، وبه وبما سيأتي يفقدون جميع منافع إظهار الإسلام الأدبية، ومظاهر أخوة الإيمان وعطفه، فمن رأى أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه، من الرئيس والإمام الأعظم وغيره يضيق صدره، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة، فيراها إذا أنصف وتدبر مليمة مذنبة، فلا يزال ينحي عليها باللائمة، حتى تعرف ذنبها، وتثوب إلى رشدها، فتتوب إلى ربها، وهي سياسة حكمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين. هذا وإن معاشرة الرئيس من إمام وملك وأمير لمنافقي قومه بمثل ما يعاشر به المخلصين منهم فيه توطين لأنفسهم على النفاق، وحمل لغيرهم على الشقاق، فكيف إذا وضع المحاسنة موضع المخاشنة، والإيثار لهم، حيث تجب الأثرة عليهم، وبالغ في تكريمهم بالحباء والاصطفاء، لمبالغتهم في التملق له ودهان الدهاء، والإطراء في الثناء؟ فإن هذه المعاملة مفسدة لأخلاق الدهماء، ومثيرة لحفائظ المخلصين الفضلاء، وكم أفسدت على الملوك الجاهلين أمرهم، وكانت سبباً لإضاعة ملكهم. {ومأواهم جهنم وبئس المصير} هذا جزاؤهم في الآخرة عطفه على جزائهم في الدنيا، فهم لا مأوى لهم يلجؤون إليه هنالك إلا دار العذاب الكبرى، التي لا يموت من أوى إليها ولا يحيا، فهم يصيرون إليها معتولين، ويُدعُّون إليها مقهورين، لا يأوون إليها مختارين. وبئس المصير هي: {إنها ساءت مستقرا ومقاما} [الفرقان: 66]...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لمّا أشعر قوله تعالى في الآية السابقة {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68]. بأنّ لهم عذابين عذاباً أخروياً وهو نار جهنم، تعيَّن أنّ العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل، فلمّا أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة، أمر نبيئَهُ بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب (60، 61) في قوله: {ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدّة ما كُشفت فيه دخيلتُهم بما تكرّر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله بجهادهم. والجهاد القتال لنصر الدين، وتقدّم في قوله تعالى: {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم} في سورة العقود (54).

وقُرن المنافقون هنا بالكفار: تنبيهاً على أنّ سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقّق في المنافقين، فجهادهم كجهاد الكفار، ولأنّ الله لمّا قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} [التوبة: 68] وأومأ قوله هنالك بأنّ لهم عذاباً آخرَ، لا جرم جَمعَهم عند شرع هذا العذاب الآخرِ لهم.

فالجهاد المأمور للفريقين مختلف، ولفظ (الجهاد) مستعمل في حقيقتِه ومجازه. وفائدة القرن بين الكفّار والمنافقين في الجهاد: إلقاء الرعب في قلوبهم، فإنّ كلّ واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامَلَ معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضداً شوكتَهم... وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعاً لشأفتهم من بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلمهم ويعرّفهم لحذيفةَ بن اليَمان، وكان المسلمون يعرفون منهم مَن تكرّرت بوادر أحواله وفلتات مقاله. وإنّما كان النبي ممسكاً عن قتلهم سَدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعُمر: « لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه» لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يَبْلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعتْه القبائل وتحقّقه المسلم والكافر، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق.

والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين، وقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئةَ المسلمين لِجهاد كلّ قوم ينقضون عُرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته، وما ذلك إلاّ نفاقٌ من قادَتهم اتَّبعه دَهماؤهم، ولعلّ هذه الآية كانت سبباً في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصِهم الإيمانَ كما ورد في قصّة الجُلَاس بن سُويد. وكان قد كفَى الله شرّ متولّي كِبْر النفاق عبدِ اللَّه بنِ أبي بننِ سَلول بموته فكان كلّ ذلك كافياً عن إعمال الأمرِ بجهادهم في هذه الآية {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25].

وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالةً بيّنة، وإن لم يكن أعلن الكفر.

{واغلظ عليهم} أمر بأنْ يكون غليظاً معهم. والغلظة يأتي معناها عند قوله: {وليجدوا فيكم غلظة} في هذه السورة (123).

وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لأنّه جُبل على الرحمة فأمر بأن يتخلّى عن جبلّته في حقّ الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل.

وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفارِ المؤلّفةِ قلوبهم على الإسلام وإنّما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثاً.

وجملة: {وبئس المصير} تذييل. وتقدّم نظيره مرات. والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان، أي يرجع إليه.

والمصير المكان الذي يصير إليه المرء، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار، والجمع بينهما هنا تفنّن.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

...مجاهدة الكفار والمنافقين:

ويتصاعد أسلوب المواجهة ضد الكفار والمنافقين الذين قد يستفيدون من الخطّة النبويّة التي تعتمد اللين والرفق في التعامل معهم وردّ تحدياتهم، فقد كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يحاول أن يدفع الأمور إلى ساحة السلام الذي يفسح المجال للحوار أن يفرض أسلوبه على الآخرين، فيقودهم إلى القناعة من موقع الفكر الذي يتأمل ويتدبر ويناقش ويحاكم ويحكم، فإن الفكر سينتهي إلى إيجابيّة الوقوف مع الإسلام من خلال ما يملكه من دلائل وبيّنات. ومرت الأيام، والنبي يزيد المحاولات السلميّة، والكفار والمنافقون يزدادون تمرّداً وإيغالاً في التآمر والتشكيك والكيد للإسلام والمسلمين. وهذا ما أراد الله لنبيّه أن يتجاوزه بعد فشل كل التجارب السلمية معهم، ما جعلهم يفكرون بأن ذلك يمثل نقطة ضعف لدى الفريق الإسلامي. فليبدأ بمنطق القوّة، لأن الكثيرين لا يفهمون إلا بهذه اللغة الحاسمة الضاغطة على الذين لا يخافون إلا من القوّة، ولهذا جاء الأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم حاسماً في نداء الله للرسول. استعمال القسوة على الكفار والمنافقين {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} فإن ذلك يخَفِّف من امتدادهم في خط العدوان، ويدفعهم إلى إعادة النظر في كثير من أساليبهم في العناد والتمرّد. أمّا كيف يكون أسلوب الجهاد، فهو أمرٌ أطلقه القرآن ولم يحدّده، ليكون للنبي اختيار الوجه الأفضل، في نطاق الظروف الموضوعية المحيطة بالساحة، في آفاق الزمان والمكان والأشخاص، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فقد حق عليهم القول بما أجرموا وما عاثوا في الأرض فساداً، وذلك جزاء الكافرين المفسدين...