{ وإذا الموءودة سئلت } وهي الجارية المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها ، أي يثقلها حتى تموت ، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة ، يقال : وأد يئد وأداً ، فهو وائد ، والمفعول موءودة . روى عكرمة عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخصت على رأس الحفرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته .
وقوله : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } هكذا قراءة الجمهور : { سُئلَت } والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت ، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإذا{[29761]} سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا ؟ !
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } أي : سألت . وكذا قال أبو الضحى : " سألت " أي : طالبت بدمها . وعن السدي ، وقتادة ، مثله{[29762]} .
وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءودة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو الأسود - وهو : محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - عن عروة ، عن عائشة ، عن جُدَامة بنت وهب - أخت عكاشة - قالت حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلَة ، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يُغيلُونَ أولادهم ، ولا يضر أولادهم ذلك شيئا " . ثم سألوه عن العزل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك الوأد الخفي ، وهو الموءودة سئلت " .
ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ - وهو عبد الله بن يزيد - عن سعيد بن أبي أيوب{[29763]} ورواه أيضا ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن إسحاق السيلحيني ، عن يحيى بن أيوب{[29764]} ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي ، والنسائي ، من حديث مالك بن أنس ، ثلاثتهم عن أبي الأسود ، به{[29765]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عَدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن سلمة بن يزيد الجُعْفي قال : انطلقتُ أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا مليكة كانت تَصل الرحم وتقري الضيف ، وتفعل [ وتفعل ]{[29766]} هلكت في الجاهلية ، فهل ذلك نافعها شيئا ؟ قال : " لا " . قلنا : فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية ، فهل ذلك نافعُها شيئا ؟ قال : " الوائدةُ والموءودةُ في النار ، إلا أن يدركَ الوائدةَ الإسلامُ ، فيعفو الله عنها " .
ورواه النسائي ، من حديث داود بن أبي هند ، به{[29767]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري{[29768]} ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة وأبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوائدة والموءودة في النار " {[29769]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسحاق الأزرق ، أخبرنا عوف ، حدثتني حسناء{[29770]} ابنة معاوية الصُّرَيمية ، عن عمها قال : قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموءودة في الجنة " {[29771]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا قرة قال : سمعت الحسن يقول : قيل : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : " الموءودة في الجنة " .
هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن ، ومنهم من قبله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة ، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب ، يقول الله عز وجل{[29772]} { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } قال ابن عباس : هي المدفونة .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن سمَاك بن حرب ، عن النعمان بن بشير ، عن عمر بن الخطاب في قوله : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [ بأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ] } {[29773]} ، قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وأدت بنات لي في الجاهلية ، فقال : " أعتق عن كل واحدة منهن رقبة " . قال : يا رسول الله ، إني صاحب إبل ؟ قال : " فانحر عن كل واحدة منهن بدنة " .
قال الحافظ أبو بكر البزار : خولف فيه عبد الرزاق ، ولم نكتبه إلا عن الحسين بن مهدي ، عنه{[29774]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : أخبرنا أبو عبد الله الظهراني{[29775]} - فيما كتب إلي - قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده مثله ، إلا أنه قال : " وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية " . وقال في آخره : " فأهد إن شئت عن كل واحدة{[29776]} بدنة " . ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حُصَين قال : قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وأدتُ اثنتي عشرة ابنًة لي في الجاهلية - أو : ثلاث عشرة - قال{[29777]} : " أعتق عددهن نَسِما " . قال : فأعتق عددهن نسما ، فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة ، فقال : يا رسول الله ، هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين . قال علي بن أبي طالب : فكنا نريحها ، ونسميها القيسية{[29778]} .
و { الموءودة } : اسم معناه المثقل عليها ، ومنه : { ولا يؤوده }{[11660]} [ البقرة : 255 ] ومنه أتأد ، أي توقد ، وأثقل وعرف هذا الاسم في النبات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن أحياء يحفر الرجل شبه البر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها ، وإذا كانت صغيرة جداً خدّ{[11661]} لها في الأرض ودفنها ، وبعضهم : كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال ، وبعضهم : غيرة وكراهية للبنات وجهالة وقرأ الجمهور : «الموءودة » بالهمز من وأد في حرف ابن مسعود : «وإذا الماودة » ، وقرأ البزي : «الموودة » بهمزة مضمومة على الواو مثل " المعوذة " {[11662]} وقرأ بعض القراء : [ الموودة ] بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة ، وقرأ الأعمش : «الموْدة » بسكون الواو على وزن : الفعلة وقرأ بعض السلف : «الموَدّة » بفتح الواو والدال المشددة ، جعل البنت مودة ، وقرأ جمهور الناس : «سئلت » ، وهذا على وجه التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك ، لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعل ، ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوباً الجواب منهم ، كما قال تعالى : { إن العهد كان مسؤولاً }{[11663]} [ الإسراء : 34 ] ، وكما يسأل التراث والحقوق .
وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد وجماعة كثيرة منهم ابن مسعود والربيع ين خيثم : «سألت »
وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يُسأل عنه المجرمون يوم الحساب . ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت ، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال ، وكان من أفظع الاعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد ، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبنائهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء ، فالوأْد أفظع أعمال أهل الشرك وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها وَرُعْبِهِ بالعذاب .
وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يُقْضَى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعلُ هذا السؤال وقتاً تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء .
والوأْدُ : دفن الطفلة وهي حيّة : قيل هو مقلوب آداه ، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب .
قال في « الكشاف » : « كانَ الرجل إذا وُلدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر تَرعَى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيّبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ثم يدفَعُها من خَلْفها ويُهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض . وقيل : كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت ابناً حبسته اه .
وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدوّ عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإِملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهْلها ، قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] وقال : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } [ النحل : 58 ، 59 ] .
وإذ قد فشا فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإِجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك ، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى .
وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه ، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته : « نِعم الصهْر القَبر » .
ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آبائهن بأنواع من الحيل مثل وقف أمْوالهم على الذكور دون الإِناث وقد قال مالك : إن ذلك من سنة الجاهلية ، ورأى ذلك الحُبس باطلاً ، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عاراً عليهن فإن لم يفعلن قطَعَهن أقرباؤهن .
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل . وبعضهم يعدها من الإِكراه .
ولم يكن الوأد معمولاً به عند جميع القبائل ، قيل : أول من وأد البنات من القبائل ربيعةُ ، وكانت كندة تئد البنات ، وكان بنو تميم يفعلون ذلك ، ووأدَ قيسٌ بن عاصم المِنْقَري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه .
ولم يكن الوأد في قريش البتةَ . وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد ابنته من قومه بناقتين عُشَرَاوين وجَمَل ، فقيل : إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة ، وقيل : وسبعين وفي « الأغاني » : وقيل : أربعمائة .
وفي « تفسير القرطبي » : فجاء الإِسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في « كتاب الشعراء » لابن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفاً .
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة : { بأي ذنب قتلت } في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها ، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجَب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابُها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر .