قوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } .
الموءودة : هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد ، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل .
يقال : وأد يَئِدُ ، ك «وعد » «يعِد » .
وقال الزمخشري{[59463]} : «وأدَ يئد » ، مقلوب من «آد يئود » إذا أثقل ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] ؛ لأنه إثقال بالتراب .
قال أبو حيان{[59464]} : ولا يدعى ذلك ؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي ، والأمر ، والمضارع والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب ، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ ، والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف .
والثاني : ك «طَأمَن واطمَأنَّ » .
والرابع : ك «لعمري ، ورعملي » .
قرأ العامة : «الموءودة » بهمزة بين واوين ساكنتين ، كالموعودة .
وقرأ البزي{[59465]} في رواية بهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة . وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون كقراءة الجماعة ، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو » قبلها ، وحذفت الهمزة فصار اللفظ : «الموودة » بواو مضمومة ، ثم أخرى ساكنة ، فقلبت «الواو » المضمومة همزة ، نحو «أجُوهٍ » في «وُجُوه » فصار اللفظ كما ترى ، ووزنها الآن «مَفْعُولة » ؛ لأن المحذوف «عين » .
والثاني : أن تكون الجملة اسم مفعول من «آدَهُ يئوده » مثل «قَادَه يَقُودُه » ، والأصل : «مأوودة » ، مثل : «مقوودة » ، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو : «مَقُول ، ومَصُون » ، فوزنها الآن إما «مَفعلة » ، إن قلنا : إنَّ المحذوف الواو الزائدة ، وإمَّا «مَفولة » إن قلنا : إن المحذوف عين الكلمة ، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف . وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها ، ولم يقلب الواو همزة .
وقرأ الأعمش{[59466]} : «المودة » ، [ بسكون الواو ]{[59467]} ، وتوجيهه : أنه حذف الهمزة اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحذف ثانيهما ، ووزنها «المُفْلَة » : لأن الهمزة عين الكلمة ، وقد حذفت .
وقال مكي : بل هو تخفيف قياسي ، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة » إلى «الواو » لم يهمزها ، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها ، فالتقى ساكنان ، فحذف الثاني .
وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة .
قالوا : لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سُنة متبعة .
والعامة على : «سُئِلَت » مبنياً للمفعول ، مضموم السين .
والحسن{[59468]} : يكسرها من سال يسال .
وقرأ أبو جعفر{[59469]} : «قُتِّلتْ » - بتشديد التاء - على التكثير ؛ لأن المراد اسم الجنس ، فناسبه التكثير .
وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ{[59470]} - رضي الله عنهم - «سألَت » مبنياً للفاعل ، «قُتِلتُ » بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم ، حكاية لكلامها .
وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر{[59471]} : «سألتْ » مبنياً للفاعل ، «قُتِلتْ » بتاء التأنيث الساكنة ، كقراءة العامة .
فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم
كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين :
إحداهما : كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فألحقٌوا البنات به ؛ تبارك وتعالى عن ذلك .
والثانية : مخافة الحاجة والإملاق ، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ .
قال ابن عبَّاسٍ : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردَّت التراب عليها ، وإن ولدتْ غلاماً حبسته{[59472]} ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
5121- سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ *** والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ{[59473]}
وقيل : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جُبَّة من صوفٍ ، أو شعرٍ ، ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتُها ستة أشبار فيقول لأمّها : طيِّبيها ، وزيَّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [ وقد حفر لها بئراً الصحراء ]{[59474]} ، فيذهب بها إلى البئر ، فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد ؛ فافتخر الفرزدق به في قوله : [ المتقارب ]
5122- ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ *** وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ{[59475]}
رُوَيَ «أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ » ، قال : يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل ، قال عليه الصلاة والسلام : «فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ »{[59476]} .
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لِمَ ضُربتَ ، وما ذنْبُكَ ؟ .
قال الحسنُ : أراد الله توبيخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ{[59477]} .
وقال أبنُ أسلمُ : بأي ذنب ضربتْ ، وكانوا يضربونها{[59478]} .
وقيل في قوله تعالى : { سُئِلَتْ } معناه : طُلبتْ ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل ، وهو كقوله تعالى : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } [ الأحزاب : 15 ] أي : مطلوباً ، فكأنها طلبت منهم ، فقيل : أين أولادكم ؟ .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا ، مُلطَّخاً بدمَائِهِ ، فيقُولُ : يا ربِّ ، هذهِ أمِّي ، [ وهذه ]{[59479]} قَتلتْنِي »{[59480]} .
والأول قول الجمهور ، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] ، على جهة التوبيخ ، والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب ، أي : فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها ، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون ، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.