اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ} (8)

قوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } .

الموءودة : هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد ، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل .

يقال : وأد يَئِدُ ، ك «وعد » «يعِد » .

وقال الزمخشري{[59463]} : «وأدَ يئد » ، مقلوب من «آد يئود » إذا أثقل ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] ؛ لأنه إثقال بالتراب .

قال أبو حيان{[59464]} : ولا يدعى ذلك ؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي ، والأمر ، والمضارع والمصدر واسم الفاعل ، واسم المفعول ، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب ، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ ، والآخر ليس كذلك ، أو أكثر استعمالاً من الآخر ، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف .

فالأول : ك «يَئِسَ وأيِسَ » .

والثاني : ك «طَأمَن واطمَأنَّ » .

والثالث : ك «شوائع وشواعي » .

والرابع : ك «لعمري ، ورعملي » .

قرأ العامة : «الموءودة » بهمزة بين واوين ساكنتين ، كالموعودة .

وقرأ البزي{[59465]} في رواية بهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة . وفيه وجهان :

أحدهما : أن تكون كقراءة الجماعة ، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو » قبلها ، وحذفت الهمزة فصار اللفظ : «الموودة » بواو مضمومة ، ثم أخرى ساكنة ، فقلبت «الواو » المضمومة همزة ، نحو «أجُوهٍ » في «وُجُوه » فصار اللفظ كما ترى ، ووزنها الآن «مَفْعُولة » ؛ لأن المحذوف «عين » .

والثاني : أن تكون الجملة اسم مفعول من «آدَهُ يئوده » مثل «قَادَه يَقُودُه » ، والأصل : «مأوودة » ، مثل : «مقوودة » ، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو : «مَقُول ، ومَصُون » ، فوزنها الآن إما «مَفعلة » ، إن قلنا : إنَّ المحذوف الواو الزائدة ، وإمَّا «مَفولة » إن قلنا : إن المحذوف عين الكلمة ، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف . وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها ، ولم يقلب الواو همزة .

وقرأ الأعمش{[59466]} : «المودة » ، [ بسكون الواو ]{[59467]} ، وتوجيهه : أنه حذف الهمزة اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحذف ثانيهما ، ووزنها «المُفْلَة » : لأن الهمزة عين الكلمة ، وقد حذفت .

وقال مكي : بل هو تخفيف قياسي ، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة » إلى «الواو » لم يهمزها ، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها ، فالتقى ساكنان ، فحذف الثاني .

وهذا كله خروج عن الظاهر .

وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة .

قالوا : لأجل الخط لأنها رسمت كذلك ، والرسم سُنة متبعة .

والعامة على : «سُئِلَت » مبنياً للمفعول ، مضموم السين .

والحسن{[59468]} : يكسرها من سال يسال .

وقرأ أبو جعفر{[59469]} : «قُتِّلتْ » - بتشديد التاء - على التكثير ؛ لأن المراد اسم الجنس ، فناسبه التكثير .

وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ{[59470]} - رضي الله عنهم - «سألَت » مبنياً للفاعل ، «قُتِلتُ » بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم ، حكاية لكلامها .

وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر{[59471]} : «سألتْ » مبنياً للفاعل ، «قُتِلتْ » بتاء التأنيث الساكنة ، كقراءة العامة .

فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم

كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين :

إحداهما : كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، فألحقٌوا البنات به ؛ تبارك وتعالى عن ذلك .

والثانية : مخافة الحاجة والإملاق ، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ .

قال ابن عبَّاسٍ : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردَّت التراب عليها ، وإن ولدتْ غلاماً حبسته{[59472]} ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]

5121- سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ *** والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ{[59473]}

وقيل : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جُبَّة من صوفٍ ، أو شعرٍ ، ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتُها ستة أشبار فيقول لأمّها : طيِّبيها ، وزيَّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [ وقد حفر لها بئراً الصحراء ]{[59474]} ، فيذهب بها إلى البئر ، فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض .

وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد ؛ فافتخر الفرزدق به في قوله : [ المتقارب ]

5122- ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ *** وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ{[59475]}

فصل

رُوَيَ «أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ » ، قال : يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل ، قال عليه الصلاة والسلام : «فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ »{[59476]} .

واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لِمَ ضُربتَ ، وما ذنْبُكَ ؟ .

قال الحسنُ : أراد الله توبيخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ{[59477]} .

وقال أبنُ أسلمُ : بأي ذنب ضربتْ ، وكانوا يضربونها{[59478]} .

وقيل في قوله تعالى : { سُئِلَتْ } معناه : طُلبتْ ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل ، وهو كقوله تعالى : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } [ الأحزاب : 15 ] أي : مطلوباً ، فكأنها طلبت منهم ، فقيل : أين أولادكم ؟ .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا ، مُلطَّخاً بدمَائِهِ ، فيقُولُ : يا ربِّ ، هذهِ أمِّي ، [ وهذه ]{[59479]} قَتلتْنِي »{[59480]} .

والأول قول الجمهور ، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] ، على جهة التوبيخ ، والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب ، أي : فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها ، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون ، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ .


[59463]:الكشاف 4/708.
[59464]:البحر المحيط 8/424.
[59465]:ينظر: البحر المحيط 8/424، والدر المصون 6/485.
[59466]:ينظر: المحرر الوجيز 5/442، والبحر المحيط 8/424، والدر المصون 6/486.
[59467]:في أ بزنة الموزة.
[59468]:ينظر: المحرر الوجيز 5/442، والبحر المحيط 8/425، والدر المصون 6/486.
[59469]:ينظر: السابق.
[59470]:ينظر: السابق.
[59471]:ينظر: البحر المحيط 8/425، والدر المصون 6/486.
[59472]:ينظر: القرطبي (19/151).
[59473]:ينظر: اللسان (زمت)، ومجمع البيان 10/674، والقرطبي 19/152.
[59474]:سقط منك ب.
[59475]:ينظر ديوان الفرزدق 1/173، واللسان (وأد) والكشاف 4/708، ومجمع البيان 10/672، والقرطبي 19/152، والبحر 8/425.
[59476]:تقدم تخريجه.
[59477]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/152).
[59478]:ينظر: المصدر السابق.
[59479]:سقط من: أ.
[59480]:ينظر: تفسير القرطبي (19/152).