جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فقرأه أبو الضّحى مسلم بن صبيح: «وَإذَا المَوْءُودَةُ سأَلَتْ بأيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»؟ بمعنى: سألت الموءودة الوائدين: بأيّ ذنب قتلوها...
عن مسلم، في قوله: وَإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ؟ قال: طلبت بدمائها...
عن الأعمش، قال: قال أبو الضحى: «وَإذَا المَوْءُودَةُ سأَلَتْ»؟ قال: سألت قتلتها.
ولو قرأ قارئ ممن قرأ «سأَلَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» كان له وجه...
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب: قراءة من قرأ ذلك سُئِلَتْ بضم السين بِأيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ على وجه الخبر، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. والموءودة: المدفونة حية، وكذلك كانت العرب تفعل ببناتها... عن قتادة وَإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ: هي في بعض القراءات: «سأَلَتْ بأيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟» لا بذنب، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم...
عن قتادة، قال: جاء قيس بن عاصم التميميّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني وَأَدت ثماني بنات في الجاهلية، قال: «فأعْتِقْ عَنْ كُلّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً»...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، فذلك قوله سبحانه وتعالى {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وعلى هذا جاء قوله (ولا تقتلوا أولادكم من املاق)... وإنما يسأل عن الموءودة على وجه التوبيخ لقاتلهما، وهو أبلغ من سؤاله، لأن هذا مما لا يصلح إلا بذنب، فأي ذنب كان لها؟ فإذا ظهر أنه لا ذنب لها جاءت الطامة الكبرى على قاتلها، لأنه رجع الأمر إليه بحجة يقر بها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأد، يئد، مقلوب من آد، يؤد: إذا أثقل. قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، لأنه إثقال بالتراب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وبعضهم: كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال، وبعضهم: غيرة وكراهية للبنات وجهالة.. ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوباً الجواب منهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ليكون ذلك تهديدا لقاتلها، فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟!...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا الموءودة} أي ما دفن من الأولاد حياً بعد الولادة أو حصل تسبب في قتله قبل الولادة بدواء ونحوه،... وإلقاؤها في البئر المحفور لها قريب من انكدار النجوم وتساقطها. ولما كان هذا أهون القتل عندهم وكانوا يظنون أنه مما لا عبرة به، بين أنه معتنىً به وأنه لا بد من بعثها وجعلها بحيث تعقل وتجيب وإن كان نفخ الروح فيها في زمن يسير فقال: {سئلت} أي وقع سؤالها عما يليق أن تسأل عنه.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له لأن الخطاب وإن علق عليها وتوجه إليها والغرض في الحقيقة به غيرها...
فعلى هذا يحسن توجه التبكيت للقائل وإقامة الحجة عليه...
قال الشهاب والتبكيت قرره الطيبي بأن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني بعث ذلك الجاني على التفكر في حاله وحال المجني عليه فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب وهذا استدراج على طريق التعريض وهو أبلغ من التصريح والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له حتى يتبين من صدر عنه ذلك كما سئل عيسى دون الكفرة وهو فن من البديع بديع انتهى...
تنبيه: قال السيوطي في (الإكليل) في الآية تعظيم شأن الوأد وهو دفن الأولاد أحياء... وروى الدارمي في أوائل (مسنده "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان فكنا نقتل الأولاد وكانت عندي ابنة لي. فلما أجابت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها فدعوتها يوما فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من أهل غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه يا أبتاه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينه، فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كف، فإنه يسأل عما أهمه ثم قال له: أعد علي حديثك، فأعاده، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته، ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا فاستأنف عملك"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا الموءودة سئلت: بأي ذنب قتلت؟ وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر. وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها، ويرفع البشرية كلها. فقال في موضع: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون!).. وقال في موضع: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [أي البنات] ظل وجهه مسودا وهو كظيم. أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟.. وقال في موضع ثالث: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)..
وكان الوأد يتم في صورة قاسية. إذ كانت البنت تدفن حية! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق. فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها. ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة. فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها. وإن كان ابنا قامت به معها! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله!
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس.. كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه. ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها. أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك.. وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح غيره إلا من أراد. إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها.. وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها.. وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعا في مالها أو جمالها..
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال. حتى جاء الإسلام. يشنع بهذه العادات ويقبحها. وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته. ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة. يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام. ويقول: إن الموءودة ستسأل عن وأدها.. فكيف بوائدها؟!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها، وفي تكريم الإنسان: الذكر والأنثى؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام، لا من أي عامل من عوامل البيئة.
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض، تحققت للمرأة الكرامة، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها. لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها. إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله. وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى.
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه.. تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ. حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة؛ ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها، وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة. فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء، يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
من أفظع الاعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبنائهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء، فالوأْد أفظع أعمال أهل الشرك وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها وَرُعْبِهِ بالعذاب. وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يُقْضَى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعلُ هذا السؤال وقتاً تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا تقف الموءودة في يوم القيامة مع الذي وأدها في الدنيا، ليُطرح السؤال عليها: هل هناك ذنب جنته لتدفن حيّة، وهي في السّنّ التي لا تحمل فيها أية مسؤوليةٍ؟ وإذا كانت في مثل هذه السّنّ، فإن أنوثتها لا تصلح لأن تكون ذنباً، ولم تفعل أي شيءٍ آخر. ولم يكن هذا السؤال للاستفهام، بل لتسجيل الموقف العادل في المسألة، لأن المسألة لا تملك احتمالاً آخر، فإن العدالة هي التي تقتص من الفاعل انطلاقاً من شعار يوم القيامة {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]، لا سيما إذا كان المظلوم ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً...