الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ} (8)

قوله : { الْمَوْءُودَةُ } : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ ، وهو الثِّقَلُ ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل . يقال : وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه . وقال الزمخشري : " وَأَدَ يَئِدُ ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ . قال اللَّهُ تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] لأنه إثْقالٌ بالتراب " . قال الشيخ : " ولا يُدَّعى ذلك ؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ . والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب : أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً ، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ . فالأول : كيَئِس وأيِسَ . والثاني : كَطَأْمَنْ واطمأنَّ . والثالث : كشوايع وشواعِي . والرابع : كلَعَمْري ورَعَمْلي " .

وقرأ العامَّةُ : " المَوْءُوْدَة " بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة . وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها ، وحُذِفَتِ الهمزةُ ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة : واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو : " أُجوه " في وُجوه ، فصار اللفظُ كما ترى ، ووزنُها الآن المَفُوْلة ؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ . والثاني : أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ : قاده يَقُوده . والأصلُ : مأْوُودة ، مثلَ مَقْوُوْدة ، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ : مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن : إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا : إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا : إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ .

وقُرِىءَ " المَوُوْدة " بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً . وقرأ الأعمش " المَوْدَة " بزنةِ المَوْزَة . وتوجيهُه : أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحَذَفَ ثانيهما ، ووزنُها المَفْلَة ؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ ، وقد حُذِفَتْ . وقال مكي : " بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها ، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها ، فسَكَّنها ، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني ، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ : أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة . قالوا : لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك ، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ .

والعامَّةُ على " سُئِلت " مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين . والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم . وقرأ أبو جعفر " قُتِّلَتْ " بتشديد التاءِ على التكثيرِ ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ ، فناسبَه التكثيرُ .

وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس " سَأَلَتْ " مبنياً للفاعل ، " قُتِلْتُ " بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها . وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ " سَأَلَتْ " مبنياً للفاعل ، " قُتِلَتْ " بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة .