وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين ، وحفظه إياهم ، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ؛ ولهذا قال : { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } أي : حافظًا ومؤيدًا وناصرًا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهيعة ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المؤمن ليُنْضي شياطينه{[17657]} كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر " {[17658]} .
وقوله { إن عبادي } الآية ، قول من الله تعالى لإبليس ، وقوله { عبادي } يريد المؤمنين في الكفر ، والمتقين في المعاصي ، وخصهم باسم العباد ، وإن كان اسماً عاماً لجميع الخلق ، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم ، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب : هذا ابني ، على معنى التنبيه منه والتشريف له ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : «هذا خالي فليرني امرؤ خاله »{[7627]} و «السلطان » الملكة والتغلب ، وتفسيره هنا بالحجة قلق ، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { وكفى بربك } يا محمد حافظاً للمؤمنين ، وقيماً على هدايتهم .
وجملة { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } من تمام الكلام المحكي ب { قال اذهب } [ الإسراء : 63 ] . وهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { فمن تبعك منهم } [ الإسراء : 63 ] وقوله : { واستفزز من استطعت منهم } [ الإسراء : 64 ] ، فإن مفهوم { من تبعك } و { من استطعت } [ الإسراء : 64 ] ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقاً من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه . وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان ، وذلك يثير سؤالاً في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علماً إجمالياً أن فريقاً لا يحتنكه لقوله : { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } [ الإسراء : 62 ] . فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب .
فأما الوصف ففي قوله : { عبادي } المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة ، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك .
وأما السبب ففي قوله : { وكفى بربك وكيلاً } المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان ، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه .
وفي هذا التوكل مراتب من الانفلات عن احتناك الشيطان ، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنّة .
فالسلطان المنفي في قوله : { ليس لك عليهم سلطان } هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده . وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات ، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله ، وتصديقهم رسوله ، واعتبارهم أنفسهم عباداً لله متطلبين شكر نعمته ، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدَةُ أهل الاعتزال . وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } في سورة [ النحل : 99 100 ] .
فالمؤمن لا يتولى الشيطانَ أبداً ولكنه قد ينخدع لوسواسه ، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر ، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه . وهذا معنى قول النبي في خطبة حجة الوداع : إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم .
فجملة { وكفى بربك وكيلاً } يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان ، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلاً عليه بأنه عبدُ الله ، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً للنبيء بالإضافة إلى ضمير الله . ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن عبادي} المخلصين، {ليس لك عليهم سلطان}: ملك في الكفر والشرك أن تضلهم عن الهدى.
{وكفى بربك وكيلا}، يعني: حرزا ومانعا، فلا أحد أمنع من الله عز وجل، فلا يخلص إليهم إبليس...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لإبليس: إن عبادي الذين أطاعوني، فاتبعوا أمري وعصوك يا إبليس، ليس لك عليهم حجة.
وقوله:"وكَفَى بَرَبّكَ وَكِيلاً" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وكفاك يا محمد ربك حفيظا، وقيما بأمرك؛ فانقَدْ لأمره وبلغ رسالاته هؤلاء المشركين ولا تخف أحدا، فإنه قد توكل بحفظك ونصرتك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: {سلطان} وجوها ثلاثة:
فأما القدرة والقهر فليس له عليهم ذلك لأنه لم يجعل له قدرة القهر عليهم، شاءوا أو أبوا. وكذلك ليس له عليهم الحجة في ما يدعوهم إليه ويأمرهم به، كقوله يوم يقوم الحساب: {وما كان لي عليكم من سلطان} الآية (إبراهيم: 22). وأما سلطان الولاية فإن له ذلك على من اختار اتباعه وتوليه كقوله: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} (النحل: 100)...
{وكفى بربك وكيلا} عاصما، يعصمك عن تمويهاته وتسويلاته، وناصرا، ينصرك على مكائده، أو مفزعا تفزع إليه، أو معتمدا تعتمد عليه في جميع أمورك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال الجبائي: معناه إن عبادي ليس لك عليهم قدرة، على ضر ونفع أكثر من الوسوسة، والدعاء إلى الفساد، فأما على كفر أو ضرر، فلا، لأنه خلق ضعيف متخلخل، لا يقدر على الإضرار بغيره...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال السلطان هو التَّسَلُّط، وليس لإبليس على أحدٍ تسلط؛ إذ المقدور بالقدرة ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير في أحد، وعلى هذا أيضاً فالآية للعموم... والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره، وأَمَّا مَنْ استعبده هواه واستمكنت منه الأطماع، واستَرقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ عِبَادِي} يريد الصالحين {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} أي لا تقدر أن تغويهم. {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك... فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغوياً مضلاً، داعياً إلى الشر، صادّا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: اعملوا ما شئتم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن عبادي...}، قول من الله تعالى لإبليس، وقوله {عبادي} يريد المؤمنين في الكفر، والمتقين في المعاصي، وخصهم باسم العباد، وإن كان اسماً عاماً لجميع الخلق، من حيث قصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه إذا رأى منه ما يحب: هذا ابني، على معنى التنبيه منه والتشريف له، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله» و «السلطان» الملكة والتغلب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهيعة، عن موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن ليُنْضي شياطينه كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر". ينضي، أي: يأخذ بناصيته ويقهره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إن {عبادي} الذين أهّلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان {ليس لك} أي بوجه من الوجوه {عليهم سلطان} أي فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك {وكفى بربك} أي الموجد لك المدبر لأمرك {وكيلاً} يحفظ ما هو وكيل فيه من كل ما يمكن أن يفسده...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الوكيل: الحافظ والرقيب... وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال، وإنما المعصوم من عصمه الله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فمتى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة. متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت.. فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان..
؟وكفى بربك وكيلا؟يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان...
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} من تمام الكلام المحكي ب {قال اذهب} [الإسراء: 63]. وهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {فمن تبعك منهم} [الإسراء: 63] وقوله: {واستفزز من استطعت منهم} [الإسراء: 64]، فإن مفهوم {من تبعك} و {من استطعت} [الإسراء: 64] ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقاً من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه. وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان... فأما الوصف ففي قوله: {عبادي} المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك. وأما السبب ففي قوله: {وكفى بربك وكيلاً} المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه... فالسلطان المنفي في قوله: {ليس لك عليهم سلطان} هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده. وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله، وتصديقهم رسوله، واعتبارهم أنفسهم عباداً لله متطلبين شكر نعمته... فجملة {وكفى بربك وكيلاً} يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلاً عليه بأنه عبدُ الله، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً للنبيء بالإضافة إلى ضمير الله. ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي التعبير عنهم ب {عبادي} فيه إشارتان:
الإشارة الأولى: أن لهم شرف الانتساب إلى الله تعالى؛ لأنهم قاوموا غرور الشيطان وخداعه وإغواءه، فكانوا بأن يختصهم الله بأنهم عباده، وإن كان الجميع عبادا لأنه خلقهم، فالطائع والعاصي عباد الله، لكن الاختصاص هنا للطائعين.
الإشارة الثانية: الإشارة بأن الآخرين أتباع الشيطان، فهم كعبادهم، ولذلك يقال عنهم عبدة الشيطان وعبدة الطاغوت...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} لأن سلطانك على الذين يتبعونك لا يعود سببه إلى ما تملكه من قوّةٍ مهيمنةٍ ضاغطةٍ ساحقةٍ، أو لضعفٍ فيهم لا يمكن أن يترجم إلى قوّة، بل هو ناشئ من تنازل هؤلاء عن قوتهم في الفكر والإرادة، واستسلامهم لك في ساحة الصراع، ولكن عبادي الذين آمنوا بي وبرسلي، وأخلصوا لرسالتي، يستنفرون كل طاقاتهم الفكرية والعملية لمواجهة أساليبك الشيطانية وضغوطك الشهويّة، فلا تستطيع إغواءهم لأنهم يتمرّدون على كل عناصر الإغواء الذاتية، ولا تتمكن من إضلالهم، لأنهم يصرّون على السير بقوّة في اتجاه الخط المستقيم، من خلال المنهج الفكري والعملي الذي خطته الرسالات للإنسان من أجل بقائه مع الله في جميع أوضاعه العامة والخاصة.. فهو الذي يمد الإنسان بالقوّة عندما يريد أن يتحرك نحوه ويتجه إليه، ويقوم على رعايته وحمايته من كل شرّ يضغط عليه بما لا قِبَلَ له به. {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وكافلاً لعباده المخلصين السائرين على طريقه وهداه...