مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٞۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلٗا} (65)

واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وفيه قولان :

الأول : أن المراد كل عباد الله من المكلفين ، وهذا قول أبي علي الجبائي ، قال والدليل عليه أن الله تعالى استثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله : { إلا من اتبعك } [ الحجر : 42 ] ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } [ إبراهيم : 22 ] . وأيضا فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم . ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض .

والقول الثاني : أن المراد بقوله : { إن عبادي } أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان ، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى :

{ إنما سلطانه على الذين يتولونه } [ النحل : 100 ] .

ثم قال : { وكفى بربك وكيلا } وفيه بحثان :

البحث الأول : أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة ، وكان ذلك سببا لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال : { وكفى بربك وكيلا } ومعناه أن الشيطان وإن كان قادرا فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه .

البحث الثاني : هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة ، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال : وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان ، فلما لم يقل ذلك بل قال : { وكفى بربك } علمنا أن الكل من الله ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله . بقي في الآية سؤالان :

السؤال الأول : أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بقوله : { واستفزز من استطعت منهم } هو إله العالم أو لم يعلم ذلك ؟ فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال : { فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } [ الإسراء : 63 ] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة ؟ وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } [ الإسراء : 62 ] .

والجواب : لعله كان شاكا في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن .

والسؤال الثاني : ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة ؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن شيئا من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع .

والجواب : أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب ، وأما المعتزلة فلهم قولان : قال الجبائي : علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده مزيد مفسدة ، وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب ، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر ، وبالغنا في الكشف عنهما ، والله أعلم .