اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٞۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلٗا} (65)

ولما قال تعالى له : افعل ما تقدر عليه ، قال سبحانه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .

قال الجبائي{[20558]} - رحمه الله تعالى - : المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين ؛ [ لأن الله ]{[20559]} تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله : { إِلاَّ مَنِ اتبعك } [ الحجر : 42 ] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس ، وتخبيط عقولهم ، وأنه لا قدرة له إلاَّ على الوسوسة ، وأكَّد ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] .

وأيضاً : لو قدر على هذه الأفعال ، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم ، دون سائر النَّاس ؛ ليكون ضرره أتمَّ ، ثم قال : وإنَّما يزولُ عقله ؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه ، فيغلب الخوف عليه ، فيحدثُ ذلك المرض .

وقيل : المراد بقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي } أهل الفضل والإيمان ؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين ؛ لقوله تعالى : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] .

ثم قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي : حافظاً ، ومن توكل الأمور إليه ، وذلك أنَّه تعالى ، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان ، قال : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ، أي أنَّ الشيطان ، وإن كان قادراً ؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه ، وأرحم بعباده ، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان .

وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى ، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ ، والإحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه ، لوجب أن يقال : وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان ، فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال : { وكفى بِرَبِّكَ } علمنا أنَّ الكل من الله تعالى ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه .

فصل

قال ابن الخطيب{[20560]} : في الآية سؤالان :

الأول : أن إبليس ، هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } هو إله العالم ، أو لم يعلم ذلك ؟ فإن علم ذلك ، ثم إنه تعالى قال : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية ، مع أنَّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة ؟ وإن لم يعلم أنَّ هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " ؟ ! .

والجواب : لعلَّه كان شاكًّا في الكلِّ أو كان يقول في كلِّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنِّ .

والسؤال الثاني : ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة ، ومكَّنه من الوسوسة ، والحكيمُ إذا أراد أمراً ، وعلم أنَّ شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله ، فإنَّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع ؟ .

والجوابُ : أمَّا مذهبنا ، فظاهر في هذا الباب ، وأمَّا المعتزلة ، فقال الجبائيُّ : علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون ، بتقدير ألا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك ، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة .

وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلاَّ أنه تعالى أبقاه تشديداً للتَّكليف على الخلق ؛ ليستحقُّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثَّواب ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر .


[20558]:ينظر: الفخر الرازي 21/8.
[20559]:في أ: لأنه.
[20560]:ينظر: الفخر الرازي 21/8.