قوله تعالى : { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، قيل : حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد ، وبذل المال في الدين .
قوله تعالى : { لهم مغفرة ورزق كريم } في الجنة . فإن قيل : أي معنى في تكرار هذه الآية ؟ قيل : المهاجرون كانوا على طبقات : فكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة ، وكان بعضهم ذا هجرتين هجرة الحبشة والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ، ومن الثانية الهجرة الثانية .
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه .
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث الآخر : " من أحب قوما حُشر معهُم " {[13215]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " . قال شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
تفرد به أحمد من هذين الوجهين{[13216]}
وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص . ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ونصروا دين الله ، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقّا ، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك وأقام بين أظهر أهل الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوّهم . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول : لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يقول : لهم في الجنة طعم ومشرب هنيّ كريم ، لا يتغير في أجوافهم فيصير نَجْوا ، ولكنه يصير رشحا كرشح المسك . وهذه الاَية تنبىء عن صحة ما قلنا أن معنى قول الله : بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ في هذه الاَية ، وقوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله : وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا . . . الاَية ، ولو كان مرادا بالاَيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحثّ على مضيّ الميراث على ما أمر ، وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الاَيات لشيء ولا منسوخ .
الأظهر أنّ هذه جملة معترضة بين جملة { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } [ الأنفال : 73 ] ، وجملة { والذين آمنوا من بعد وهاجروا } [ الأنفال : 75 ] الآية ، والواو اعتراضية للتنويه بالمهاجرين والأنصار ، وبيان جزائهم وثوابهم ، بعد بيان أحكام ولاية بعضهم لبعض بقوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } إلى قوله : { أولئك بعضهم أولياء بعض } [ الأنفال : 72 ] فليست هذه تكريراً للأولى ، وإن تشابهت ألفاظها : فالأولى لبيان ولاية بعضهم لبعض ، وهذه واردة للثناء عليهم والشهادة لهم بصدق الإيمان مع وعدهم بالجزاء .
وجيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك هم المؤمنون } لمثل الغرض الذي جيء به لأجله في قوله : { أولئك بعضهم أولياء بعض } [ الأنفال : 72 ] كما تقدّم .
وهذه الصيغة صيغة قصر ، أي قصر الإيمان عليهم دون غيرهم ممّن لم يهاجروا ، والقصر هنا مقيّد بالحال في قوله : { حَقّاً } . فقوله : { حقّا } حال من { المؤمنون } وهو مصدر جعل من صفتهم ، فالمعنى : أنّهم حاقّون ، أي محقّقون لإيمانهم بأن عضّدوه بالهجرة من دار الكفر ، وليس الحقّ هنا بمعنى المقابل للباطل ، حتّى يكون إيمان غيرهم ممّن لم يهاجروا باطلاً ، لأنّ قرينة قوله : { والذين آمنوا ولم يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] مانعة من ذلك ، إذ قد أثبت لهم الإيمان ، ونفى عنهم استحقاق ولاية المؤمنين .
والرزق الكريم هو الذي لا يخالط النفع به ضرّ ولا نكد ، فهو نفع محض لا كدر فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.