مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (74)

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا القسم الثالث ، عاد إلى ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى فقال : { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم } .

واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولا ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضا ، ثم إنه تعالى ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم . والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم ههنا من ثلاثة أوجه : أولها : قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } فقوله : { أولئك هم المؤمنون } يفيد الحصر وقوله : { حقا } يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، والأمر في الحقيقة كذلك ، لأن من لم يكن محقا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين . وثانيها : قوله : { لهم مغفرة } وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } يدل على كمال تلك الحياة ، والمعنى : لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات . وثالثها : قوله : { ورزق كريم } والمراد منه الثواب الرفيع الشريف . والحاصل : أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : { أولئك هم المؤمنون حقا } وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب ، أما دفع العقاب فهو المراد بقوله : { لهم مغفرة } وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله : { ورزق كريم } وهذه السعادات العالية إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية ، فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال ، وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات .