قوله تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، وإنما قال : { يسبحون } ولم يقل تسبح على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها فعل العقلاء من الجري والسبح ، فذكر على ما يعقل . والفلك : مدار النجوم الذي يضمها ، والفلك في كلام العرب : كل شيء مستدير ، وجمعه أفلاك ، ومنه فلك المغزل . وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل : يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة . قال الضحاك : فلكها مجراها وسرعة سيرها ، قال مجاهد : كهيئة حديد الرحى . وقال بعضهم : الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب ، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه ، وهو معنى قول قتادة . وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء . وقال آخرون : الفلك موج مكفوف دون السماء يجري فيه الشمس والقمر والنجوم .
ثم قال منبهًا على بعض آياته : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : هذا في ظلامه وسكونه ، وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى ، وعكسه الآخر . { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } هذه لها نور يخصها ، وفلك بذاته ، وزمان على حدة ، وحركة وسير خاص ، وهذا بنور خاص آخر ، وفلك آخر ، وسير آخر ، وتقدير آخر ، { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، أي : يدورون .
قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة . وكذا قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر ، لا يدورون إلا به ، ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] .
وقوله : وَهُوَ الّذِي خَلَقَ اللّيْلَ والنّهارَ والشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار ، نعمة منه عليكم وحجة ودلالة على عظيم سلطانه وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم ، وخلق الشمس والقمر أيضا كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول : كلّ ذلك في فلك يسبحون .
واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هو كهيئة حديدة الرّحَى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : فلك كهيئة حديدة الرحى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : كُلّ فِي فَلَكٍ قال : فلك كهيئة حديدة الرحى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : فلك السماء .
وقال آخرون : بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول قي قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الفلك : الجري والسرعة .
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه .
وقال آخرون : بل هو القطب الذي تدور به النجوم . واستشهد قائل هذا القول له هذا بقول الراجز :
باتَتْ تُناجِي الفَلَكَ الدّوّارَا *** حتى الصّباحِ تعمَل الأَقْتارَا
حدثنا به بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ : أي في فلك السماء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : يجري في فلك السماء كما رأيت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يسْبَحُونَ قال : الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر . وقرأ : تَبارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّماءِ بُرُوجا وَجَعَلَ فِيها سِرَاجا وَقَمَرا مُنِيرا وقال : تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض . كلّ في فَلكٍ يَسْبَحُونَ قال : فيما بين السماء والأرض : النجوم والشمس والقمر .
وذُكر عن الحسن أنه كان يقول : الفلك طاحونة كهيئة فَلْكَة المغزل .
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرّحَى ، وكما ذُكر عن الحسن كطاحونة الرّحَى ، وجائز أن يكون موجا مكفوفا ، وأن يكون قطب السماء . وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر ، فجمعه أفلاك ، وقد ذكرت قول الراجز :
*** باتَتْ تُناجِي الفُلْكَ الدّوّارَا ***
وإذ كان كل ما دار في كلامها ، ولم يكن في كتاب الله ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمن يُقطع بقوله العذُر ، دليلٌ يدل على أيّ ذلك هو من أيَ كان الواجب أن نقول فيه ما قال ونسكت عما لا علم لنا به .
فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الكلام : والشمس والقمر ، كلّ ذلك في دائر يسبحون .
وأما قوله : يَسْبَحُونَ فإن معناه : يَجْرُون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال : يجرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَسْبَحُونَ قال : يجرون . وقيل : كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون ، ولم يقل : «يسبحن » أو «تسبح » ، كما قيل : والشّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ لأن السجود من أفعال بني آدم ، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم .
{ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر } بيان لبعض تلك الآيات . { كل في فلك } أي كل واحد منهما ، والتنوين بدل من المضاف إليه والمراد بالفلك الجنس كقولهم : كساهم الأمير حلة . { يسبحون } يسرعون على سطح الفلك إسراع السابح على سطح الماء ، وهو خبر { كل } والجملة حال من { الشمس والقمر } ، وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما ، وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة فعلهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار، نعمة منه عليكم وحجة ودلالة على عظيم سلطانه وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الشمس والقمر أيضا. "كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ "يقول: كلّ ذلك في فلك يسبحون...
عن ابن عباس: "كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" قال: فلك السماء.
[عن] الضحاك يقول في قوله: "كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" الفلك: الجري والسرعة...
الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر...
فتأويل الكلام: والشمس والقمر، كلّ ذلك في دائر يسبحون.
وأما قوله: "يَسْبَحُونَ" فإن معناه: يَجْرُون...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وهو الذي خلق الليل والنهار "ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم "والشمس والقمر "أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ لتعلم الشهور والسنون والحساب،
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} هذه لها نور يخصها، وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور خاص آخر، وفلك آخر، وسير آخر، وتقدير آخر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض. وبالحياة كلها.. والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر. بهذه الدقة التي لا تختل مرة؛ وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة.. جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس، ووحدة الإرادة، ووحدة الخالق المدبر القدير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر} لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأيْن لإفادة القصر، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء، لأنهم لما عبدوا الأصنام، والعبادة شكر، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية. ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار، ونفس الشمس والقمر، لا في إيجادها على حالة خاصة، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل. وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تُفيض النور على الموجودات، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض. وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجُّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلْق النهار تبع لخلق الشمس وخلقِ الأرض ومقابلةِ الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم. وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكراً مجملاً في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلاً في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقامُ مثيراً في نفوس السامعين سؤالاً عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره. وضمير {يسبحون} عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القَمر والكوكب...
وقد علم من لفظ (كل) ومن ظرفية (في) أن لفظ {فلك} عام، أي لكل منها فلكُه فهي أفلاك كثيرة...
والسبح: مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} مشيرا بذلك إلى أنه قد سخر للإنسان كلا من المكان والزمان، فجعل طبيعتهما ملائمة لطبيعته، وجعل أحوالهما موافقة لمصلحته، فما بال الناس لا يزالون يشركون بالله ويكفرون، ويشكون في وجوده وينكرون؟ {قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون}...