قوله : { وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من الليل والنهار والشمس والقمر . و «يَسْبَحُون » يجوز أن يكون خبر «كُلٌّ » على المعنى ، و «في فَلَكٍ »{[28316]} متعلق به . ويجوز أن يكون حالاً والخبر «في فَلَكٍ » . وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره{[28317]} ، إلا أن المضاف إليه ( الشَّمْس{[28318]} والقَمَر ) وهو الظاهر ، لأن السباحة من صفتهما دون ( اللَّيلِ والنَّهَارِ ) ، وعلى هذا فيتعذر عن الإتيان بضمير الجمع ، وعن كونه جمع من يعقل ، أما الأول فقيل : إنما جمع ، لأن ثم معطوفاً محذوفاً تقديره : والنجوم كما دلت عليه آيات أخر ، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها{[28319]} .
وقال الزمخشري : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع مل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها ، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار{[28320]} . انتهى . والذي حسن ذلك كوته رأس آية{[28321]} . وقال أبو البقاء : و «يَسْبَحون » خبر " كلٌّ " على المعنى ، لأن كل واحد إذا سبح فكلها تسبح . وقيل{[28322]} : التقدير : وكلها ، والخبر «يَسْبَحُونَ » وأتى بضمير الجمع على معنى «كل »{[28323]} .
وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و «يَسْبَحُونَ » حالاً فراراً من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ ، فوقع في تخالف الحال{[28324]} وصاحبها .
وأما الثاني فلأنه لمَّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع العقلاء كقوله{[28325]} : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }{[28326]} و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }{[28327]} .
قال الزمخشري : والتنوين في «كل » عوض عن المضاف إليه أي : كلهم{[28328]} . { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وهذه الجملة يجوز أن تكون لا محل لها من الإعراب لاستئنافها{[28329]} ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر »{[28330]} . فإن قلنا : إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين{[28331]} يكون حالاً من الجميع ، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما{[28332]} كانت حالاً من «الشمس والقمر » وتأويل الجمع قد تقدم{[28333]} . قال أبو حيان : أو{[28334]} محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر » لأن الليل والنهار لا يتصفان بأنهما يجريان في فَلَكٍ فهو كقولك : رأيت هنداً وزيداً ( متبرجة{[28335]} ){[28336]} . انتهى . وسبقه إلى هذا الزمخشري ، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : لكل واحد من القمرين فَلَكٌ{[28337]} على حدة فكيف قال : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . قُلْت : هذا كقولهم : كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي : كل واحد منهم{[28338]} . والسباحة العوم في الماء ، وقد يعبر عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في «سُبْحَانَكَ »{[28339]} .
ومعنى «يُسَبِّحُونَ » يسيرون بسرعة كالسابح في الماء .
اعلم أن للكواكب{[28340]} حركتين الأولى : مجمع عليها{[28341]} وهي حركتها من المشرق إلى المغرب . والحركة الثانية : قالت الفلاسفة وأصحاب{[28342]} الهيئة : إن للكواكب حركة أخرى من المشرق إلى المغرب ، قالوا : وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة ، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن{[28343]} ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق . وهذا{[28344]} في القمر ظاهر جداً ، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي ، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي . فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق . وأجيبوا : بأن ذلك محال ، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين{[28345]} إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة ، وذلك محال ، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها ، فلو تحرك{[28346]} الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين ، وهو محال .
قالوا : ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى{[28347]} إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب{[28348]} . وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا .
والفَلَكُ مدار النجوم ، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلاَك ، ومنه فلك المغزل{[28349]} . قال الضحاك : الفلك ليس بجسم ، وإنما هو مدار هذه النجوم{[28350]} . وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء{[28351]} . وقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه{[28352]} . وقيل : ماء مجموع تجري فيه الكواكب{[28353]} . واحتجوا بأن السباحة لا تكون إلا في الماء . وأجيبوا بالمنع ، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ{[28354]} يديه في الجري : سابح{[28355]} .
وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل{[28356]} .
وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق{[28357]} والالتئام والنمو والذبول{[28358]} . واختلف الناس{[28359]} في حركات الكواكب ، فقال بعضهم : الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة{[28360]} في الماء ، وقال آخرون : الفلك متحرك ، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته ، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة .
وقيل : الفلك متحرك والكواكب مغروزة فيه . أما الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل ، لأنه{[28361]} يوجب خرق الفلك وهو محال .
وأما الثاني فحركة الكواكب إن كانت مخالفة لحركة الفلك فذلك أيضاً يوجب الخرق ، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق ، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم ، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق . فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك ، والفلك يتحرك ، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك . واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطل ، بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة ، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة و{[28362]} الكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء{[28363]} .
فصل{[28364]}
احتج ابن سينا{[28365]} على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله «يَسْبَحُونَ »قال : والجمع بالواو والنون لا يكون للعقلاء ، وبقوله تعالى : { والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }{[28366]} .
والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم{[28367]} وهو السباحة .