في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ} (14)

ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون ، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما ، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما :

( خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .

ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة . والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر . فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم ، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود . أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدارك البشر بحال ! ونحسب الجن كذلك ، فإن هم إلا خلق مقاييسه مقاييس المخلوقات !

فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء ؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك .

ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن ، وهي كذلك من خلق الله . والصلصال : الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه . وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب . كما أنها قد تكون تعبيرا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين .

[ وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض . فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والآزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم ، والحديد ، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسلكون ، والألمنيوم . وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب . وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر ، وفي الإنسان عن التراب . إلا أن أصنافها واحدة ] .

إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني . فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم ، أو تعني شيئا آخر سواه . وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو طين أو صلصال .

والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة . فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية - تجريبية أو افتراضية - بنية بيان ما في القرآن من إعجاز . فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها . ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائما للتبديل والتعديل ، بل للخطأ والصواب من الأساس ! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن ، هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق ، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم . إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه .

فأما خلق الجان من مارج من نار . فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية . والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن . خبر الله الصادق . الذي خلق وهو أعلم بمن خلق . . والمارج : المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح ! وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس . ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله . فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . . )وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ} (14)

قال كثير من المفسرين : { الإنسان } آدم . وقال آخرون : أراد اسم الجنس ، وساغ ذلك من حيث أبوهم مخلوق من الصلصال .

واختلف الناس في اشتقاق الصلصال ، فقال مكي فيما حكى النقاش : هو من صلّ اللحم وغيره إذا نتن ، فهي إشارة إلى الحمأة . وقال الطبري وجمهور المفسرين : هو من صلّ إذا صوت ، وذلك في الطين لكرمه وجودته ، فهي إشارة إلى ما كان من تربة آدم من الطين الحر ، وذلك أن الله تعالى خلقه من طيب وخبيث ومختلف اللون ، فمرة ذكر في خلقه هذا ، ومرة هذا ، وكل ما في القرآن في ذلك صفات ترددت على التراب الذي خلق منه . و «الفخار » : الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ} (14)

هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإِنسان وخلقه الجن .

والقول في مجيء المسند فعلاً كالقول في قوله : { علم القرآن } [ الرحمن : 2 ] .

والمراد بالإِنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله : { من صلصال } تقدم نظيره في سورة الحجر ( 2 ) .

والصلصال : الطين اليابس .

والفخار : الطين المطبوخ بالنار ويُسمى الخزَف . وظاهر كلام المفسرين أن قوله : { كالفخار } صفة ل { صلصال } . وصرح بذلك الكواشي في « تلخيص التبصرة » ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف . والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالاً من { الإنسان } ، أي خلقه من صلصال فصار الإِنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة .

والمعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به ، وقد عبر عنه بالحمأ المسنون ، والطين اللازب ، والتراب .