قوله تعالى : { ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله } يعني الأصنام ، { قالوا ضلوا عنا } فقدناهم فلا نراهم ، { بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً } قيل : أنكروا . وقيل : معناه بل لم ندع من قبل شيئاً ينفع ويضر . وقال الحسين بن الفضل : أي : لم نكن نصنع من قبل شيئاً ، أي : ضاعت عبادتنا لها ، كما يقول من ضاع عمله : ما كنت أعمل شيئاً . قال الله عز وجل : { كذلك } أي : كما أضل هؤلاء . { يضل الله الكافرين }
{ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون* من دون الله قالوا ضلوا عنا } غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم ، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم . { بل لم نكن ندعو من قبل شيئا } أي بل تبين لنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئا يعتد به كقولك : حسبته شيئا فلم يكن . { كذلك } مثل ذلك الضلال . { يضل الله الكافرين } حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا .
ومعنى { ضَلُوا } غابوا كقوله : { أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] أي غُيبنا في التراب ، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم . فأضربوا عن قولهم : { ضَلُوا عَنَّا } وقالوا : { بَلْ لَمْ نَكُن نَدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئَاً } أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئاً يغني عنا ، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يُعتدّ به ، كما تقول : حسبتُ أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء ، إن كنتَ خبرته فلم تر عنده خيراً . وفي الحديث : « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : « ليسوا بشيء » أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله ، وقال عباس بن مرداس :
وقد كنت في الحرب ذا تدراء *** فلم أعط شيئاً ولم أمنع
وتقدم عند قوله تعالى : { لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } في سورة [ العقود : 68 ] ، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئاً لمنافاته لقولهم : { ضَلُّوا عَنَّا } المقتضي الاعترافَ الضمني بعبادتهم .
وفسر كثير من المفسرين قولهم : { بَل لَّمْ نَكُن ندْعُوا من قَبْلُ شيئاً } أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] . ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان ، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذٍ كما قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم } .
وجملة { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم . ومعنى الإِشارة تعجيب من ضلالهم ، أي مثل ضلالهم ذلك يُضل الله الكافرين . والمراد بالكافرين : عموم الكافرين ، فليس هذا من الإِظهار في مقام الإِضمار . والتشبيه في قوله : { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } يُفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، فتكون جملة { كذلك يُضِلُّ الله الكافرين } تذييلاً ، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يُضل الله جميع الكافرين ، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبهاً به إضلال الكافرين كلهم ، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال ، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدُّ الكفر .
والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ولا هو نظير قوله المتقدم { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات اللَّه يجحدون } [ غافر : 63 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من دون الله} فهل يمنعونكم من النار يعني الآلهة.
{قالوا ضلوا عنا} ضلت عنا الآلهة.
{بل لم نكن ندعو من قبل شيئا} يعني لم نكن نعبد من قبل في الدنيا شيئا، إن الذي كنا نعبد كان باطلا لم يكن شيئا.
{كذلك} يعني هكذا {يضل الله الكافرين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 73]
وقوله:"ثُمّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَما كُنْتُمْ تُشرِكُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ" يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب، فإن المعبود يغيث من عبده وخدمه وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعا على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا: ضلوا عنا: يقول: عدلوا عنا، فأخذوا غير طريقنا، وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضلوا عنا، ولكنا لم نكن ندعو من قبل في الدنيا شيئا: أي لم نكن نعبد شيئا. يقول الله تعالى ذكره: "كذَلكَ يُضِلّ اللّهُ الكَافِرِينَ "يقول: كما أضلّ هؤلاء الذين ضلّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم، كذلك يضلّ الله أهل الكفر به عنه، وعن رحمته وعبادته، فلا يرحمهم فينجيهم من النار، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا القول منهم يخرّج على وجهين:
أحدهما: على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا، وأشركوها إياه في ألوهيته، وهو كقوله: {ثم لم تكن فتنتهم} الآية [الأنعام: 23] بقوله: {يحلفون لكم} [التوبة: 96] أنكروا ما كان منهم، وأقسموا على ذلك.
وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها؛ لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعد ما عاينوا العذاب، وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.
والثاني: قوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} ليس على الإنكار والجحود، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ، ولم تُغنهم عما نزل بهم، فقالوا عند ذلك: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أي الذي كنا نعبده في الدنيا، كان باطلا، لم يك شيئا حين لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم.
فإن كان تأويل الآية هذا فهذا يدل على أن قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} {من دون الله} بعد ما دخلوا النار.
وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود فذلك يدل على أن القول قبل أن يدخلوا النار حين تشهد عليهم الجوارح، وذلك يقرر قوله: {ادخلوا أبواب جهنم} [غافر: 76] والله أعلم.
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي هكذا يضل الله من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله، وهو كقوله: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} [التوبة: 127].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فيقولون: {ضلوا عنا} أي تلفوا لنا وغابوا واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون: {بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً} وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد في الدهر والنظر فقال الله تعالى لنبيه: {كذلك يضل الله الكافرين} أي كهذه الصفة المذكورة وبهذا الترتيب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال: {من دون الله} أي المحيط بجميع العز وكل العظمة، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه: {قالوا} أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق: {ضلوا عنا} فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا.
ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا إلى أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا: {بل لم نكن ندعو} أي لم يكن ذلك في طباعنا. ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها، لا النفي المقيد بالاستغراق، فإنه لا ينفي ما دونه، أثبتوا الجار فقالوا: {من قبل} أي قبل هذه الإعادة {شيئاً} لنكون قد أشركنا به، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا {انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} [الأنعام: 24] فالآية من الاحتباك: ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً.
ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم، كان كأنه قيل: هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء، فأجيب بقوله: {كذلك} أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب {يضل الله} أي المحيط علماً وقدرة، عن القصد النافع من حجة وغيرها {الكافرين} أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(كذلك يضل الله الكافرين). إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجاباً على قلوبهم وعقولهم، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل، فيحرمون يوم القيامة من الجنّة وينتهي مصيرهم إلى النّار. وهكذا يضل الله الكافرين...