تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمۡ نَكُن نَّدۡعُواْ مِن قَبۡلُ شَيۡـٔٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (74)

الآيتان 73 و74 وقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ } ظاهر هذه الآية أن هذا القول لهم بعد ما دخلوا النار لأنه ذكره على إثر قوله : { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ } { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } فظاهرها أن قوله { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ } بعد دخولهم النار .

وظاهر قوله بعد هذا متصل به { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [ غافر : 76 ] على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار .

وقوله تعالى : { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } هذا القول منهم يخرّج على وجهين :

أحدهما : على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا ، وأشركوها إياه في ألوهيته ، وهو كقوله : { ثم لم تكن فتنتهم } الآية [ الأنعام : 23 ] بقوله : { يحلفون لكم } [ التوبة : 96 ] أنكروا ما كان منهم ، وأقسموا على ذلك .

وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعد ما عاينوا العذاب ، وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل ، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب .

والثاني : قوله : { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } ليس على الإنكار والجحود ، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ ، ولم تُغنهم عما نزل بهم ، فقالوا عند ذلك : { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } أي الذي كنا نعبده في الدنيا ، كان باطلا ، لم يك شيئا حين لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم .

فإن كان تأويل الآية هذا فهذا يدل على أن قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ } { من دون الله } بعد ما دخلوا النار .

وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود فذلك يدل على أن القول قبل أن يدخلوا النار حين تشهد عليهم الجوارح ، وذلك يقرر قوله : { ادخلوا أبواب جهنم } [ غافر : 76 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } أي هكذا يضل الله من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله ، وهو كقوله : { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } [ التوبة : 127 ] أي إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم ، وكذلك قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] أي إذ علم منهم أنهم يختارون الزّيْغ أزاغهم ، والله أعلم .